الشرق الأوسطسياسة
أخر الأخبار

انهيار المعنى وسقوط الأسطورة.. وعي ما بعد الطوفان

السابع من أكتوبر لم يكن فقط بداية حرب، بل لحظة ميلاد وعي جديد..

لم يكن السابع من أكتوبر 2023 مجرد بداية حرب جديدة في غزة، بل بداية زلزال في الوعي الإنساني.

ما سمي بطوفان الأقصى لم يكن فعلاً عسكريا فحسب، بل حدثا سيكولوجياأعاد ترتيب العلاقة بين الحقيقة والزيف، بين الضحية والجلاد، وبين الإنسان والأسطورة التي خدع بها طويلا.

في تلك اللحظة انكشفت حدود القوة الإسرائيلية وسقطت فكرة الاستثناء التي حاولت جعل الكيان الصهيوني خارج قوانين التاريخ. كان الطوفان إعلانا بأن زمن الأكاذيب الطويلة قد انتهى.

لم يتحرك الفلسطيني في تلك اللحظة كضحية، بل كفاعل تاريخي استعاد ذاته من تحت الركام. خرج من صمته ليعيد تعريف نفسه، ويحول الذاكرة من أداة حزن إلى طاقة مقاومة.

لم يعد اللاجئ رقما في نشرات الأمم، بل رمزا عالميا لإنسان يبحث عن كرامته. ومن رحم هذا الوعي الجديد، بدأت تتوالى اعترافات دولية بدولة فلسطين، لا بوصفها خطوة سياسية، بل كاعتراف أخلاقي بحدود الزيف الغربي الذي تواطأ طويلاً مع المشروع الصهيوني.

لقد عرت حرب غزة المنظومة الإعلامية الغربية التي احتكرت رواية الصراع. الصورة أصبحت أقوى من البيان، والكاميرا صارت سلاحا يفضح القتلة. كل طفل خرج من تحت الأنقاض كان سؤالا مفتوحاً أمام الضمير العالمي، وكل مشهد من الدمار كان مسمارا في نعش الخطاب الصهيوني.. وهكذا، انقلبت التكنولوجيا التي صممت لتزييف الوعي إلى أداة لتحريره، فتحوّل الهاتف المحمول إلى جبهة مقاومة لا يمكن إسكاتها.

لكن الطوفان لم يضرب الخارج فقط، بل اخترق الداخل الإسرائيلي نفسه. فقد انهارت الثقة التي كانت تشكل العمود الفقري للهوية الصهيونية. كيف يمكن لدولة وصفت بأنها الأكثر تحصينا أن تخترق بهذه السهولة؟

سقطت أسطورة الأمن، ومعها وهم “الوطن الموعود”.. انكشفت هشاشة المجتمع الإسرائيلي الذي تأسس على معادلة الخوف، وبدأ يعيش طوفانا نفسيا من الشك والرعب. ومن هنا يمكن القول إن الهزيمة الأعمق كانت في الوعي، لا في الميدان.

وفي العالم العربي، بدا الطوفان مرآة تستعيد فيها الشعوب روح الربيع العربي التي خنقت قبل عقد. من غزة انبعث المعنى الذي غاب طويلا الكرامة.

لم تستطع الأنظمة مجاراة نبض الشارع، لكن الوعي الشعبي توحد حول سؤال الحرية. فالقضية الفلسطينية لم تعد ملفا سياسيا، بل أصبحت معيارا أخلاقيا يقاس به صدق الشعوب والأنظمة على السواء.

التحولات السياسية التي تبعت الحرب، واعتراف بعض الدول الأوروبية بفلسطين، ليست مجرد تغير في المواقف، بل تجسيد لانهيار النموذج الأخلاقي الغربي.

فحين ينهار منطق ازدواجية المعايير، يبدأ العالم بإعادة تعريف إنسانيته. وهذا التحول لا يعني نهاية الصراع، بل بداية زمن جديد تتغير فيه مفاهيم القوة والشرعية.

الصراع اليوم لم يعد بين جيوش، بل بين سرديات. إسرائيل تحارب للحفاظ على صورتها، والفلسطيني يقاتل من أجل امتلاك المعنى. ومن ينتصر في ميدان الوعي هو من يكتب التاريخ. في هذا الميدان، يبدو أن غزة قد انتصرت لأنها أجبرت العالم على مواجهة مرآته الملطخة.

ومع أن الدمار ما زال قائماً، فإن السردية الصهيونية تفقد قدرتها على الإقناع.. فالمشروع الذي بُني على الخوف والتفوق الأخلاقي المزعوم بدأ ينهار أمام سيل الصور والحقائق. كما سقطت الشيوعية حين فقدت معناها، وكما انهار الفصل العنصري حين انكشفت هشاشته، كذلك يتهاوى المشروع الصهيوني حين يواجه سؤال الأخلاق.

السابع من أكتوبر لم يكن فقط بداية حرب، بل لحظة ميلاد وعي جديد، وعي لم يعد يقبل رواية واحدة ولا يخضع لمنطق القوة.

إنه وعي ما بعد الطوفان، حيث لا تصنع الأساطير في مكاتب الإعلام، بل تهدم في عيون الأطفال الذين تحدّق في الكاميرا دون خوف.

“قد تسقط المدن وتمحى الجغرافيا، لكن الوعي حين ينتفض لا يعود إلى سباته”.

https://anbaaexpress.ma/wi4e1

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى