أعاد الاتفاق الزراعي الجديد بين المغرب والاتحاد الأوروبي إشعال الجدل داخل الأوساط الزراعية الإسبانية، حيث عبّرت منظمات مهنية عن غضبها الشديد من إدماج منتجات الأقاليم الجنوبية ضمن نطاق الاتفاق، معتبرة أن هذه الخطوة تهدد الإنتاج المحلي في شبه الجزيرة الإيبيرية وتفتح الباب أمام منافسة “غير عادلة”، على حدّ وصفها.
ويأتي هذا التوتر بعد دخول الصيغة المعدّلة من الاتفاق حيز التنفيذ المؤقت منذ الثالث من أكتوبر الجاري، في انتظار المصادقة النهائية خلال الأشهر المقبلة.
ويشمل الاتفاق تسهيلات تقنية جديدة لتسويق المنتجات المغربية، خاصة تلك القادمة من جهتي العيون الساقية الحمراء والداخلة وادي الذهب، مع اعتماد ملصقات تعريفية توضّح مصدر الإنتاج، ما أثار حفيظة الهيئات الزراعية الإسبانية التي رأت في الخطوة اعترافًا أوروبيًا ضمنيًا بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية.
من جانبه، هاجم أندريس غونغورا، المسؤول عن قطاع الفواكه والخضر في منظمة “COAG”، الاتفاق الجديد، زاعمًا أنه سيتسبب في “إغراق الأسواق الأوروبية بمنتجات مغربية لا تحترم المعايير الصحية والبيئية الأوروبية”، وهو نفس الموقف الذي عبّرت عنه أدوراسيون بلانكي، رئيسة منظمة “ASAJA” في ألمرية، التي اتهمت المغرب باستخدام مواد كيميائية محظورة.
لكن هذه الاتهامات، وفق مراقبين، ليست سوى واجهة خطاب اقتصادي يرمي إلى الحد من الزخم المتزايد للمنتوج المغربي داخل السوق الأوروبية، الذي بات ينافس بقوة نظيره الإسباني بفضل جودة الإنتاج وانخفاض كلفة اليد العاملة.
ويرى محللون أن الخطاب الإسباني الجديد يستعيد نفس الأدوات القديمة التي استخدمتها النقابات الزراعية في مناسبات سابقة، حين حاولت الضغط على المفوضية الأوروبية لإعادة النظر في الامتيازات الممنوحة للمغرب.
ويؤكد هؤلاء أن ما تخشاه هذه المنظمات ليس غياب الرقابة الصحية، بقدر ما تخشى فقدان السيطرة على الأسواق الأوروبية، خاصة في ظل تفوق المنتجات المغربية في قطاعات رئيسية كالفلفل والطماطم والبطيخ والخيار.
وتشير مؤشرات السوق إلى أن تنافسية الفلاحة المغربية أصبحت تُحدث تحولات هيكلية في سلاسل الإمداد داخل أوروبا، حيث باتت العديد من الشركات الإسبانية نفسها تعتمد على استيراد المواد الأولية الزراعية من المغرب لتلبية حاجياتها الإنتاجية.
هذا التحول الاقتصادي، وإن كان ينسجم مع منطق التكامل الإقليمي، إلا أنه يثير قلق المزارعين الإسبان الذين يرون فيه تهديدًا مباشرا لمصدر رزقهم في الجنوب الإسباني.
الاحتجاجات التي شهدتها إسبانيا العام الماضي، حين خرج مئات المزارعين في تظاهرات تحت راية حركة “SOS Rural”، كانت تعبيرًا مبكرًا عن هذا القلق البنيوي.
فقد طالبت تلك الحركة حينها بوقف استيراد المنتجات القادمة من خارج الاتحاد الأوروبي، وعلى رأسها المغربية والمصرية، بدعوى عدم تكافؤ شروط المنافسة.
ومع ذلك، أقرّت المتحدثة باسمها نتاليا كوربالان بأن تراجع الإنتاج المحلي وتقلص المساحات المزروعة يدفع إسبانيا تدريجيًا إلى الاعتماد على واردات من دول أخرى، أبرزها المغرب، لتأمين حاجياتها الغذائية.
ويذهب خبراء الاقتصاد الزراعي إلى أن الخطاب الإسباني الحالي يحمل في طيّاته مفارقة واضحة، فبينما تهاجم المنظمات المهنية المغرب بحجة “المعايير الصحية”، تشير الإحصاءات إلى أن صادراته الزراعية نحو أوروبا تمر عبر قنوات مراقبة أوروبية دقيقة وتستجيب لشروط الاتحاد.
أما المخاوف الحقيقية، فتتعلق بما تسميه مدريد “السيادة الغذائية”، في ظل تحذيرات داخلية من أن إسبانيا قد تفقد قدرتها على تلبية حاجياتها الغذائية خلال العقد المقبل، لتصبح في موقع التبعية الاقتصادية لدول متوسطية أكثر دينامية وعلى رأسها المغرب.
بهذا المعنى، يبدو الجدل حول “السلامة الصحية” مجرد ستار لحرب اقتصادية صامتة تُخاض على خلفية تحولات جيو-زراعية عميقة في حوض المتوسط، حيث يسعى المغرب لترسيخ مكانته كمصدر رئيسي للمنتجات الطازجة نحو القارة الأوروبية، بينما تحاول إسبانيا الدفاع عن نموذجها الزراعي المهدّد بالتراجع.
وبين المصالح المتضاربة والخطابات الشعبوية، يظل الاتفاق الجديد عنوانًا لتحول في ميزان القوى الاقتصادية بين الضفتين، يعيد تعريف من يملك الغذاء.. ومن يملك القرار.