يعود المغرب في أكتوبر 2025 ليحتضن فعاليات المؤتمر العالمي للفلامنكو في دورة رابعة تؤكد أن هذا الفن لم يعد مجرد لون موسيقي أو استعراض راقص، بل جسراً ثقافياً عابراً للزمن والمكان يصل حاضر إسبانيا بذاكرة الأندلس ووجدان المغرب.
الحدث وفق بلاغ توصلت به أنباء إكسبريس تنظمه سفارة إسبانيا ومعهد ثيربانتس بشراكة مع مؤسسات مغربية، وهو يوزع عروضه على ثماني مدن: الرباط، فاس، طنجة، مراكش، تطوان، أكادير، الدار البيضاء، والعرائش التي تدخل لأول مرة إلى دائرة هذا الموعد العالمي.
ولا يمكن قراءة حضور الفلامنكو في المغرب بمعزل عن التجربة الأندلسية التي تركت بصمتها العميقة في ضفتي المتوسط، فالمقامات والإيقاعات وحتى بعض النصوص الشعرية التي يقوم عليها هذا الفن تجد امتدادها في التراث الغنائي الأندلسي المغربي الذي ازدهر بعد سقوط الأندلس، ومن هنا يصبح تنظيم هذا المؤتمر في مدن مغربية بمثابة عودة للأصل حيث يتقاطع الذاكرة الأندلسية مع المعاصرة الإسبانية.
برنامج هذه الدورة يعكس هذا التلاقي بين الجذور والآفاق الجديدة، حيث يقدم أندريس باريوس عرضه “من باريوس إلى لوركا” بمزج الفلامنكو بالجاز واللاتين مستدعياً تفاعل الثقافات كما حدث في فضاء الأندلس، فيما يقود أليخاندرو هورتادو عبر عمله “Devenir” حكاية الغيتار من جذوره ما قبل الفلامنكو وصولاً إلى التأليف الحديث ترافقه الراقصة باتريسيا غيرّيرو التي تجسد حيوية المدرسة النسائية الجديدة في الرقص، بينما تعيد ميرسيدس دي كوردوبا تعريف الفلامنكو بوصفه فلسفة وجودية في عرضها “Sin más” حيث يتحول الرقص إلى لغة للبوح بالفرح والمعاناة معاً.
ويخصص عرض “استذكار بيبي مارشينا” مساحة لاستحضار أعلام الغناء الفلامنكي التقليدي بصوت ساندرا كارّاسكو وعزف دافيد دي أراهال، ويختتم الباليه الفلامنكو الأندلسي التظاهرة بعرض “Tierra Bendita”، عمل مسرحي كبير يحتفي بذاكرة الأندلس بوصفها جغرافيا وجدانية يتقاسمها الإسبان والمغاربة على السواء.
وتراهن هذه الدورة على إبراز الطاقات الشابة التي أعادت للفلامنكو بريقه في إسبانيا مانحة إياه نفساً معاصراً دون أن يقطع جذوره.
كما يكرس المؤتمر حضور الصوت النسائي في الغناء والرقص في خطوة تُعيد الاعتبار لنساء الفلامنكو اللواتي ساهمن عبر قرون في جعله فناً نابضاً بالحياة والتجدد.
أما الدعم الذي يلقاه المؤتمر من وزارة الشباب والثقافة والتواصل المغربية ومن المجالس المحلية، فيعكس إدراكاً متزايداً بأن الفلامنكو ليس فقط تراثاً إسبانياً بل هو جزء من المشترك الأندلسي الذي يجمع المغرب وإسبانيا، فحضور هذا الفن على المسارح المغربية لا يقتصر على المتعة الجمالية بل يفتح أيضاً مجالاً لتأمل العلاقة بين الذاكرة والهوية وبين ما هو محلي وما هو كوني.
هكذا يظهر المؤتمر العالمي للفلامنكو بالمغرب ليس مجرد عروض فنية بل رحلة أندلسية مستمرة عبر القرون حيث يتجاور صوت الغيتار مع أصداء الموشحات وترقص الأقدام على إيقاعات تشبه دقات القلب الأندلسي الذي لا يزال نابضاً على ضفتي المتوسط، إنه حدث يذكّر بأن الثقافة حين تُصاغ في لغة الفن تستطيع أن تفتح جسوراً أوسع من كل حدود.