في كل زمن من أزمنة الغضب الشعبي، يعلو شعار واحد كأنه نداء الخلاص: “الشعب يريد إسقاط الفساد”.
غير أن هذا الشعار، على قوته وإيحاءاته الثورية، يخفي وراءه مفارقة مؤلمة: فالشعب ذاته الذي يطالب بإسقاط الفساد، هو في كثير من الأحيان أول من يغذيه ويمارسه في تفاصيل حياته اليومية، بوعي أو بغير وعي. هذه المقالة دعوة إلى النظر في مرآة حياتنا اليومية بإمعان، وإلى مساءلة الذات قبل اتهام الآخر.
لأن التغيير لا يبدأ من المؤسسات الحكومية، بل من السلوك الفردي، من الشارع، من القسم، من السوق، من البيت، ومن الضمير.
لشعب يريد إسقاط الفساد، هي عبارة يهتف بها الجميع في الشوارع والساحات، تُكتب على الجدران، وتُرفع على اللافتات، حتى غدت نشيدًا يوميًا.
لكن الحقيقة المرة أن الفساد ليس كما نعتقد هو ذلك الوحش الذي يعيش في المكاتب والمؤسسات العليا فقط، وإنما الفساد ينبتٌ وينمو في تربة المجتمع نفسه، وسُقي من عاداتنا وتواطئنا وصمتنا.
فالفساد يبدأ حين نشتري بسكويتًا ونرمي غلافه في الشارع دون اكتراث بالنظافة العامة. والفساد حين نمرّ أمام طابور طويل ونتجاوزه لقضاء مصلحة إدارية لأننا “نعرف فلانًا”، وكأن معرفته تُسقط عنا صفة المواطنة. الفساد هو حين يغشّ التاجر في الميزان، ويبرر ذلك بأن “الزمن صعب”، وحين بقصر الموظف في عمله لأنه “ليس هناك من يراقبه”.
الفساد هو حين نُطالب بالحقوق دون أن نؤدي الواجبات، وحين نلعن الدولة في المقاهي بعد أن نضيع ساعات النهار الثمينة في الثرثرة وانتظار المستقبل والعيش الكريم أن يقدم لنا في طبق من ذهب.
الفساد هو حين يُقدّم الأستاذ نقاط المجاملة، ويزوّر الطبيب شهادةً، ويكذب المواطن في التصريح الضريبي، ويستغل العامل مواد وموارد الدولة العامة لحسابه الخاص.
والفساد أيضًا حين نغضّ الطرف عن الخطأ لأن صاحبه قريب أو صديق، وحين نصمت عن المنكر بدعوى “ما بغيناش المشاكل”. الفساد كذلك هو حين نعلم أبناءنا أن الذكاء هو التحايل على القانون وليس احترامها.
الفساد هو حين نُخرب المقاعد الدراسية ونكتب على الجدران عبارات بذيئة ثم نشتكي من ضعف التعليم. الفساد هو حين نرمي الأزبال أمام بيوتنا ونلعن البلدية، وحين نحمل المسؤولية لغيرنا عن كل سوء ونحن جزء من المشكلة.
الفساد هو حين نطالب بالشفافية ولا نكون نحن شفافين، وحين نلعن الظلم ونحن نظلم الناس في أبسط المعاملات.
الفساد إذن ليس ظاهرة سياسية فقط، هو ثقافة وسلوك يومي يتشكل من تفاصيل حياتنا ويتسلل إليها، حتى صار عاديًا لا يستنكره عامة أفراد المجتمع وإن التغيير لا يتحقق بالشعارات ولا بالهتافات، فالتغيير الحقيقي يبدأ من داخلنا، من الضمير. فحين يحترم المواطن القانون إيمانًا بالنظام لا خوفًا من العقوبة..
وحين ينجز العامل عمله بإخلاص، والموظف بصدق، والمربي بأمانة، والتاجر بضمير. وحين نؤمن أن الإصلاح الحقيقي ينطلق عبر قلوبنا وليس من الهتافات في الشوارع. فحين يُصلح الشعب نفسه، يسقط الفساد من تلقاء ذاته. لأن الفساد، ببساطة، لم ينزل علينا من السماء.. بل خرج منا، وعاش فينا، وتغذى من صمتنا.
إذن فإن معركة إسقاط الفساد لا تبدأ من البرلمان، وإنما من سلة المهملات أمام باب البيت.
فحين نتعلم أن النظام سلوك، وأن النظافة ثقافة، وأن النزاهة موقف، نكون قد أسقطنا أول جدار من جدران الفساد. وحين نربي أبناءنا على أن “الخطأ الصغير” ليس بسيطًا، نكون قد زرعنا أول بذرة في تربة الإصلاح الحقيقي.
التغيير يبدأ من الفرد.. من أنت، مني، منا جميعًا.
فحين ننتصر على ذواتنا، لن يكون في هذا الوطن مكان للفساد آنذاك.