حين التقى الرئيس السوري أحمد الشرع بنظيره الروسي فلاديمير بوتين في الكرملين في موسكو قبل أيام، أمكن تخيّل أن بوتين سأل ضيفه عن مزاج الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي التقاه الشرع في أيلول في نيويورك، وعما سمعه من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي التقاه الشرع في الإليزيه في باريس أيار.
سأله أيضا عن انطباعاته بعدما زار عواصم المنطقة، وعقد اجتماعات مع زعماء دول على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة قبل أسابيع. قد يكون ذلك خيالاً، لكن الشرع جاء إلى بوتين متسلّحا بكل الدعم الدولي الذي لا يتوقف.
في ما شاهدناه من تبادل الكلمات بين الرئيسين بعد حفاوة تقصّدت موسكو إظهارها لضيفها ولمن يهمه الأمر، أمكن استنتاج مستوى الثقة التي يتوجه به الشرع إلى بوتين.
كان واضحا بالنسبة للرئيس الروسي أن سوريا تغيرت، وتغيّرت جدا عما عهده بوتين في تعامله مع سوريا ورئيسها المخلوع. تعمّد سابقا إظهار استخفاف بضيفه، وخفض لطقوس استقباله، وتغييب مُذلّ لعلم بلاده. بدا الشرع ندّاً في مخاطبة زعيم دولة عظمى، مبدّدا الصورة النمطية التي كانت تعامل بها روسيا وزعيمها سوريا السابقة ورئيسها المخلوع.
يذكرنا الشرع قبل أيام أن “هيئته” كانت تنسّق مع القوات الروسية في سوريا ما أبعدها عن طريق قواته في حمص في معركة عبورها من إدلب إلى دمشق. فضح ذلك الكشف تواصلا بمستوى التواطؤ قاد إلى سقوط بشّار الأسد ونظامه.
ولا بد أن بوتين نفسه يتذكّر أنه في عزّ فوضى التحوّلات المبكرة بعد هروب الأسد، وتدافع الأوروبيين للضغط على حاكم سوريا الجديد بما يشبه “التعليمات” بطرد روسيا من سوريا وإقفال ما تملكه من قواعد عسكرية، قال الشرع “لن أفعل”، مستنكرا خروجا “لا يليق بعلاقة روسيا القديمة مع سوريا”.
لكن علاقات الدول لا تقوم على “قصص الغرام”. تملك روسيا أوراقا تُفهم نظام دمشق الجديد أنها “شر لا بد منه”.
والأرجح أن رسالة أحداث الساحل في آذار الماضي قد وصلت، خصوصا حين أطلت شخصية مؤيد لنظام الأسد من موسكو لتعلن على الهواء مباشرة أنه كان شخصيا وراء تمويل ما ارتقى إلى مستوى الانقلاب على الحكم الجديد. لكن ذلك تفصيلا.
تملك روسيا حقّ النقض في مجلس الأمن، وهي المصدر الأمثل للسلاح إلى الجيش السوري حتى إشعار آخر. هي مورّد للطاقة والغذاء من دون المرور ببيروقراطية العقوبات البطيئة الغياب.
تملك روسيا علاقات مصالح ونفوذ مع تركيا وإسرائيل، والأهم أنها تملك تبريد الرؤوس الحامية داخل سوريا التي تعوّل على موسكو لانتزاع حكم ممن أقسموا أن “دمشق لنا إلى يوم القيامة”.
ذهب الشرع إلى روسيا في التوقيت الأمثل. ذهب مستقويا بما نجح ونظامه من نسجه من علاقات أظهرت دعماً سعوديا منهجيا بنيويا.
يعرف بوتين ماذا يعني ذلك ويعرف تماما ما يعنيه وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي يعرفه جيدا، من وراء ذلك.
جاء الشرع بعد أن أمعنت واشنطن في إظهار دعم لدمشق لا يوفّر مبعوث ترامب، توم بارّاك التعبير عنه. جاء الشرع بعدما أنهت دمشق تشكيل برلمان الشهر الماضي وجده بوتين مناسبة تهنئة لما يعززه من “الروابط والتفاعل بين جميع القوى السياسية”.
لا بأس أن يجاري الشرع أطوار بوتين الغريبة ويصعد درج الكرملين الطويل. صعده برشاقة بعدما صعد دروجا مستحيلة منذ بدء حكايته الشخصية منتقلا من المغاور المتوارية إلى كبرى عواصم الدنيا.
لكن المفارقة أن الشرع بعدما أنهى “ورشة” مع الغرب الذي عادت أعلامه ترفرف في دمشق، يصل موسكو، بما يشبه خاطة ترضي الجميع.
الثابت أن الولايات المتحدة لا يضيرها هذا الوصل بين دمشق وموسكو فيما ترامب يتحضّر لاجتماع جديد مع بوتين لوقف حرب أوكرانيا. والمستنتج أن أوروبا ابتلعت ضغوطها لدفع الشرع لطرد الروس وسكتت.
والمعروف أن تركيا قد رتبت كثيرا من آليات التواصل بين سوريا الجديدة وروسيا. والملاحظ أن إسرائيل مرتاحة لبقاء روسيا في سوريا كعامل توازن يحدّ من طموحات تركيا داخل سوريا.
قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عام 2012: “لن نسمح للسنّة بحكم سوريا”. فهم بوتين إشارة الشرع إلى أن سوريا ستحاول “إعادة ضبط” علاقاتها مع روسيا. العلاقة لن تكون أبدا كما كانت في عهد “الأسدين” الزائلين.
لكن الزعيم الروسي، في عزّ أزمه بلاده المنخرطة في حرب في أوكرانيا خرجت عن حساباته، بدا مرتاحا إلى أن بلاده من خلال علاقاتها مع سوريا وبقاء قواعدها هناك، ستبقى مطلّة على البحر المتوسط، محافظة على يد طولى في أفريقيا، يتعزز دورها في الشرق الأوسط المتحوّل.
في طهران من رأى في المناسبة “نكسة” لكنها نموذجا قد تحتذي به دمشق في مقاربة علاقاتها معها بصفتها داعم سابق مثل روسيا لنظام الأسد. وفي لبنان من تأمل داخل حزب الله ما يعنيه الحدث، بعد ساعات من زيارات الوزراء السوريين إلى بيروت، من إعادة تموضع سيضطره الحزب لابتلاع ما بات أمرا واقعا وضريبة موجعة يفرضها قدر الجغرافيا وتقلبات التاريخ.
بقي أمام الشرع إزالة اللبس مع الصين حتى يتمكن من كسب ودّ كافة حاملي بطاقات الفيتو الخمس في مجلس الأمن الدولي، وهذه حكاية أخرى. لن يتمكن الرئيس السوري من الوثوق بروسيا التي كانت نيرانها تلاحقه في إدلب. هي “شر لا بد منه” من شأنها أن تعينه ضد شرور تتربص بسوريا وتحوّلاتها “العجيبة”.
من تلك العجائب أن يتأمل الأسد من شرفته مرور موكب صاخب للرئيس السوري الجديد في شوارع موسكو تعبّر مشهديته عن أن سوريا الأسد انتهت إلى الأبد.




