آراءسياسة
أخر الأخبار

السودان المنسي بين نكبتين.. حين سقطت الفاشر وسقط الوعي العربي معها

الإعلام العربي مشغول بالتحليلات حول الشرق الأوسط الكبير، والسياسات الأميركية، وصعود إسرائيل، لكنه لا يرى أن الخراب الحقيقي بات في قلب أفريقيا العربية. هناك تمارس الإبادة ببطء، كأنها طقس يومي لا يستحق المتابعة..

في كل حرب تطفأ فيها المدن، يخرج من بين الركام سؤال الذاكرة: من يتذكر السودان؟ بلد شاسع المساحة، متعدّد الأعراق والديانات، صار في السنوات الأخيرة مختبرًا مأساويًا لاختبار حدود الصمت العربي، تمامًا كما صارت غزة مرآةً مكشوفةً لضمير العالم.

وبين نكبة غزة ونكبة السودان، تتكون مأساة مزدوجة عنوانها الغياب، حيث تتحوّل الأوطان إلى ساحات مفتوحة للموت، بلا شهودٍ ولا مرافعةٍ ولا حتى نشرة أخبارٍ تُذكر فيها الأسماء كاملة.

سقوط مدينة الفاشر بيد ميلشيا قوات الدعم السريع لم يكن مجرد حدث عسكري في غرب السودان، بل إعلانًا رسميًا عن تفكك الدولة واغتيال آخر ملامحها.

فالمدينة التي كانت تُعدّ مركزًا لتوازن هشّ بين القبائل والإدارات المحلية، أصبحت الآن رمزًا للانهيار الكامل لمنظومة الحكم، ودليلًا على انتقال السودان من حرب السلطة إلى حرب الوجود.

وما يجري في دارفور اليوم ليس سوى إعادة تمثيلٍ لتاريخٍ دمويٍ مؤجل، حيث تعود العصبيات القديمة لتفرض منطقها فوق خرائطٍ رسمها الاستعمار قبل قرن، ولم تستطع الدولة الوطنية أن تملأها بالمعنى.

منذ سقوط نظام البشير، والسودان يعيش حالة من التيه السياسي والتمزق الاجتماعي. الجيش الذي يفترض أن يكون الضامن لوحدة البلاد، تحول إلى طرفٍ في صراعٍ مفتوح مع قوات الدعم السريع، وهي تشكيل عسكري نشأ من رحم الحرب الأهلية، ثم نما حتى صار دولة داخل الدولة، يملك سلاحه واقتصاده وتحالفاته الإقليمية.

لم يعد الصراع على السلطة فقط، بل على تعريف من هو السودان، ومن يملك حق الحديث باسمه.

ومع كل مدينةٍ تسقط، تتآكل فكرة الوطن نفسها. تتناسل الميليشيات، ويهجر السكان، وتُغتصب النساء، ويقتل المدنيون بلا تمييز، ثم يُطوى كل ذلك تحت عنوانٍ باهت.. “اشتباكات في دارفور”.

لكن الحقيقة أعمق من الأخبار؛ إنها مأساة مجتمعٍ جرد من ذاكرته، وأُعيد إلى زمن القبيلة والسلاح والغنيمة، وسط صمتٍ عربي مريب يساوي بين الجريمة والقدر.

في الخرطوم، العاصمة التي تحولت إلى أطلالٍ من الدخان والدمار، تتجول صور الخراب كما تتجول أشباح الماضي. هناك في الشوارع التي كانت تضج بالطلاب والمثقفين والحياة المدنية، صار الصمت سيد المشهد. الناس يهاجرون بلا وجهة، والبلاد تتفتت إلى كانتونات عسكرية.

أما النخب التي كانت يوماً تتحدث عن الثورة والديمقراطية، فقد غابت خلف جدران العجز أو الارتهان للخارج.

ومثلما تحوّلت غزة إلى سجنٍ جماعي للموت تحت القصف، صار السودان سجنا مفتوحا للفوضى تحت صمت العالم. المشهد واحد وإن اختلفت الجغرافيا، هنا الطائرات الإسرائيلية تدكّ البيوت فوق ساكنيها، وهناك الميليشيات السودانية تقتحم القرى وتحرقها بمن فيها.. وبين الفاشر وغزة، يمتد خيط واحد من الألم، عنوانه أن الإنسان العربي صار ضحية مزدوجة، تقتله البنادق حينا ويغتاله النسيان حيناً آخر.

لكن الفارق أن غزة، رغم الحصار والدمار، ما زالت تمتلك ذاكرةً تقاوم بها النسيان، بينما السودان يساق إلى ظلامٍ بلا رواة.

الإعلام العربي مشغول بالتحليلات حول الشرق الأوسط الكبير، والسياسات الأميركية، وصعود إسرائيل، لكنه لا يرى أن الخراب الحقيقي بات في قلب أفريقيا العربية. هناك تمارس الإبادة ببطء، كأنها طقس يومي لا يستحق المتابعة.

الإنهاك الذي أصاب السودان ليس وليد الحرب الأخيرة فقط، بل نتيجة تراكم عقود من الإقصاء، والتهميش، والفساد، والولاءات المتشابكة بين العسكر والقبائل.

وحين سقطت الفاشر، لم تسقط لأنها ضعيفة، بل لأنها كانت محاصرة بخيانة الجميع، خيانة الداخل الذي باع وحدته، وخيانة الإقليم الذي اكتفى بالمراقبة، وخيانة الضمير العربي الذي لم يعد يعرف الفرق بين التضامن والنسيان.

ربما يدرك السودانيون اليوم أن ما يجري في بلدهم هو نسخة أفريقية من نكبة فلسطين، وأن الخرطوم، مثل غزة، تدفع ثمن موقعها الجغرافي والتاريخي في معادلات القوى.

فالسودان، بما يملكه من ثروات طبيعية وموقع استراتيجي بين البحر الأحمر وأفريقيا الوسطى، ليس مجرد دولة منهارة، بل مساحة مفتوحة لصراع المشاريع الدولية.

من الشرق تدخل مصالح الإمارات ومصر، ومن الغرب تمتد أذرع روسيا وفرنسا، ومن الشمال تراقب إسرائيل وتخطط، ومن الجنوب تتسلل قوى أفريقية تبحث عن نصيبها من الخراب.

إنها نكبة وعي قبل أن تكون نكبة أرض. فالذين دمّروا السودان لم يحملوا فقط السلاح، بل قتلوا فكرة الدولة نفسها. حولوا المواطنة إلى انتماءٍ طائفي، والعلم إلى راية قبلية، والجيش إلى شركة خاصةٍ لتصفية الحسابات.

وهكذا، صار الوطن الذي كان يومًا منارة للثقافة العربية والأفريقية، مجرد خريطة يكتبها الآخرون بالرصاص.

ومع ذلك، ما زال في هذا البلد ما يقاوم به الموت. في الفاشر نفسها، خرجت نساء يحملن الخبز لأطفال الحي رغم القصف. في الخرطوم، يواصل الأطباء المتطوعون عملهم في المستشفيات المهدّمة.

في النيل الأزرق، ما زال المزارعون يزرعون أرضهم كما لو أن الحرب بعيدة. تلك التفاصيل الصغيرة، التي لا تراها الكاميرات، هي ما تبقي السودان حيّا رغم كل شيء.

السودان اليوم يقف بين أن يكون وطنا يعيد بناء نفسه من الرماد، أو أن يتحول إلى جرحٍ مفتوحٍ آخر في الجسد العربي. لكنه في كل الأحوال يذكرنا بأن الخراب لا يبدأ من الطائرات ولا ينتهي بالدبابات، بل يبدأ من لحظةٍ نفقد فيها الإحساس بالآخر، حين نبرر الصمت، ونعتاد المأساة، ونسميها سياسة.

قد تسقط الفاشر، وقد تنهار الخرطوم، لكن الذي لا يجوز أن يسقط هو الوعي بأن ما يحدث هناك ليس بعيدًا عنا، بل مرآة لما يمكن أن يحدث في أي مكان حين تنكسر الدولة ويُقتل الضمير. فالسودان لا يموت وحده، بل يموت فينا جميعًا كل يوم.

https://anbaaexpress.ma/cx3lz

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى