عبدالله فضول
في زمن تتسارع فيه التحولات الفكرية والاجتماعية، يبرز موضوع الخطبة الموحدة كأحد القضايا التي أثارت جدلًا بين مؤيد ومعارض.
فبين من يراها وسيلة لضبط الخطاب الديني وتوحيد رسالته، ومن يراها تقييدًا لحرية الخطيب وتهميشًا لخصوصية الواقع المحلي، تتعدد القراءات وتتباين المواقف.
لكن ما يغيب عن كثير من النقاشات هو أن الخطبة الموحدة، حين تُفهم فهمًا سليمًا، لا تُقصي الواقع، ولا تُلغي شخصية الخطيب، ولا تُحول المنبر إلى منصة جامدة. بل هي إطار عام، يُمكن للخطيب أن يُفعّله بأسلوبه، ويُغنيه ببلاغة إلقائه، ويُقرّبه من الناس بما أوتي من فصاحة وحكمة.
لا يمكن لأحد أن يدّعي تمثيل كل الشعب، فكما أن هناك من يعترض على الخطبة الموحدة، هناك من يؤيدها لأسباب عملية ومنطقية.
غالبية المصلين، وخاصة الشباب والطبقات العاملة، يبحثون عن خطبة موجزة وواضحة، لا إطالة فيها. هم لا يريدون دروسًا مطولة قد ترهقهم أو تضيع وقتهم، بل يفضلون خطبة مركزة ومختصرة يمكن استيعابها بسهولة، وهذا ما توفره الخطبة الموحدة.
صحيح أن الخطبة يجب أن تكون مرتبطة بواقع الناس، والخطبة الموحدة لا تمنع ذلك. على العكس، هي تضمن أن يكون الموضوع مطابقًا للواقع المحلي، لأنها تصدر عن جهة لديها دراية واسعة بمشاكل المجتمع ككل، وبالتالي يمكنها توجيه الخطاب ليعالج قضايا مهمة وملحة، مثل:
– التوعية بالقيم الاجتماعية، كالتكافل والتعاون
– محاربة الظواهر السلبية، مثل الإدمان والتشدد
– حماية الأسرة من التفكك والانهيار
في عصرنا الحالي، ومع انتشار الأفكار المتطرفة، وغياب الرقابة على الخطاب الديني، فإن وجود خطبة موحدة يُسهم في الحفاظ على اتزان المنبر، ويمنع الانحرافات الفكرية، ويُرسّخ خطابًا مسؤولًا ومتزنًا يخدم المجتمع.
قد يعترض معترض ويقول: بما أن الخطبة ستكون موحدة، فإن الخطباء سيصبحون مجرد قارئين، لا دور لهم سوى تلاوة نص جاهز.
لكن هذا الاعتراض يغفل جانبًا جوهريًا، وهو أن القراءة ليست واحدة، وأن الإلقاء فن له أثره الكبير في النفوس.
فهناك من يلقي الخطبة الموحدة بطريقة مؤثرة، يستميل بها المصلين، ويأخذ بلبّهم، ويُشعرهم أن الكلام ينبع من قلبه، لا من ورقة أمامه. وهناك من يقرؤها بطريقة باهتة، لا تؤثر، ولا تُحرك ساكنًا، وكأنها واجب يُؤدى بلا روح.
بمعنى آخر، نحن لا نتحدث فقط عن مضمون الخطبة، بل عن بلاغة الإلقاء، وعن الحضور الوجداني للخطيب، وعن قدرته على أن يُحيي النص، ويمنحه حرارة المعنى، وصدق الشعور.
فالخطبة الموحدة لا تُلغي شخصية الخطيب، بل تمنحه فرصة ليُبدع في الأداء، ويُجدد في الأسلوب، ويُقرّب المعاني إلى الناس بما أوتي من صوت ونبر وأداء.
ولا يمكن الحديث عن الخطبة الموحدة دون التوقف عند بعض الخطباء الذين ساهموا، من حيث لا يشعرون، في شرعنتها. فقد حول بعضهم خطبة الجمعة إلى درس أكاديمي جاف، مليء بالتفاصيل النظرية، بعيد عن لغة الناس وهمومهم، وكأن المنبر صار قاعة محاضرات لا منبر دعوة.
هؤلاء، حين يُطيلون في الخطبة دون مراعاة لظروف المصلين الصحية والنفسية، يُثقلون على الناس، ويُفرغون الخطبة من روحها التربوية والوجدانية.
ومن المفارقات أن بعضهم لا يُقصر الخطبة إلا في أيام المطر، وكأن الحر الشديد، أو الشمس (السامة) في شهري نونبر ودجنبر، لا تستحق التخفيف.
في حين أن كبار السن، والمرضى، والعمال، يعانون من هذه الظروف، ويحتاجون إلى خطبة رحيمة، لا إلى خطبة مرهقة.وبعض الفقهاء ليست له ايضا دراية بايام الامتحانات التي يجتازها المتعلمون فيطيلون خطبهم مما يهدد حضورهم للامتحان في الوقت المحدد (احيلكم على الامتحان الجهوي اولى بكالوريا الذي يكون يوم الجمعة صمن أيامه).
الخطبة ليست استعراضًا للعلم، بل هي تواصل وجداني، وتذكير روحي، وتوجيه عملي. والخطيب الذي لا يُراعي حال الناس، يُفقد الخطبة أثرها، ويُبرر للناس المطالبة بالتنظيم والتوحيد، حتى لا يبقى المنبر رهين اجتهادات فردية قد تُثقل ولا تُثمر.
أما من يقول إن الخطبة الموحدة تقتل التنوع، فهو مخطئ؛ فالتنوع لا يقتصر على الخطبة فقط. يمكن للمصلين أن يجدوا التنوع في:
– دروس الوعظ: التي تُلقى بين صلاتي المغرب والعشاء.
– وسائل التواصل الاجتماعي: التي تعج بالمقاطع الدينية المتنوعة، والتي يمكن للناس الاختيار من بينها بحسب اهتماماته.
ثم أيضًا، لا ينبغي أن نُحمّل خطبة الجمعة أكثر مما تحتمل، فهناك أيام أخرى تُلقى فيها دروس توعوية، ومحاضرات موجهة، ولقاءات تربوية.
يمكن أن تكون خطبة الجمعة مخصصة للحديث عن القيم الأخلاقية العامة التي تهم الجميع، مثل الصدق، الأمانة، الرحمة، والعدل، وهي قيم لا تنفصل عن أي فئة ولا تُستثنى منها طبقة.
أما الأيام الأخرى، فيمكن أن تُخصص للواقع التفصيلي للناس، فيتحدث الفقيه مع الفلاحين عن أخلاقيات الزراعة، والعدل في توزيع الماء، وأمانة التعامل في بيع المحاصيل.
ويتحدث مع التجار عن الصدق في المعاملات، والوفاء بالعقود، وأحكام البيع والشراء. ومع الشباب عن التحديات الفكرية، وضبط السلوك، وبناء الطموح. ومع النساء عن الأسرة، والتربية، والحقوق والواجبات.
وحتى في المواضيع الشرعية، مثل الزكاة، لا يصح أن نقول إنها تخص الأغنياء وحدهم. فالفقير أيضًا يجب أن يسمع عنها، لأنها تتعلق بحقوقه وكرامته، وتُشعره بأن الإسلام لم ينسه، بل جعله في قلب منظومة العدالة الاجتماعية.
الحديث عن الزكاة في حي فقير ليس عبثًا، بل هو تذكير بحق مشروع، وبقيمة إنسانية، وبوعد إلهي لا يُهمل أحدًا.
إذن، لا نُصعّب الأمور، ولا نُحمّل الجمعة ما لا تحتمله، ولا نُطالبها بأن تكون شاملة لكل شيء. بل نُحسن توزيع الخطاب، ونُراعي تنوع الحاجات، ونُبقي المنبر وسيلة إصلاح، لا ساحة جدل. فالدين حين يُخاطب الناس بما يفهمونه ويحتاجونه، يصبح نورًا في حياتهم، لا عبئًا على صدورهم.
ويلاحظ القارئ، أننا منذ سنين وسنين نسمع فقط خطبًا مكررة متداولة، بل إننا أصبحنا نعرف مضمونها، والآيات التي سيُستشهد بها، وكذلك الأحاديث النبوية، قبل أن يبدأ الخطيب كلامه.
وأحيله على خطب رمضان، وشعبان، والحج.. فهل أحدثت في نفوسنا إيمانًا قويًا، أو أثارت فينا يقظة روحية، أو دفعتنا إلى مراجعة أنفسنا بصدق؟ أم أنها مرّت كما تمر العادة، دون أثر يُذكر؟
والأهم من ذلك، أن نبتعد عن القراءة التآمرية وكأن الإسلام مستهدف، أو أن الخطبة الموحدة تُخفي نوايا مريبة. فالحمد لله، كلنا مؤمنون، ولا نزايد أو يُزايد علينا أحد. والإسلام دين راسخ، لا تهزه الظنون، ولا تُضعفه التأويلات المتسرعة. بل هو دين متين، يتسع للنقاش، ويقوى بالمراجعة، ويزدهر حين يُقدّم للناس بلغة العصر وروح الحكمة وللقارئ واسع النظر.





السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أخي و أستاذي الفاضل عبدالله فضول .
بارك الله فيك على هذه الأفكار الثاقبة و الرائعة. لقد أوضحت بكل وضوح أهمية الابتعاد عن القراءات التآمرية مقابل التفكير الإيجابي في ديننا الحنيف. إن الإسلام دين راسخ وقوي، يتسع للنقاش والمراجعة، ويزدهر بالحكمة واللغة التي تناسب العصر. جزاك الله خيرًا على هذه الدعوة الطيبة للتفكير الإيجابي البناء و المنطقي.