كان الاتفاق بيننا على أن نكون سوياً بصورة أو بأخرى، إلى أبعد مدى ممكن، على أن تظل مؤسساتنا الأسرية كما هي، دون شوشرة أو مشاكل، وكان ما حدث ليلتها دليلاً قاطعاً على صدق المشاعر والميولات النفسية والعقلية تجاه بعضينا بصورة حداثوية تتفهم الوضع العام لنا، وفي ذات الوقت تتجه نحو التتويج المراد، ولا تسألني كيف سيتم ذلك، فأنا لا أعرف، لكن اتفقنا أن نترك الأمور كما هي، فقط يجب تدعيمها بكثرة اللقاءات المفتوحة في الأماكن العامة المفتوحة، لتقريب وجهات النظر ومحاولة خلق مناخ قاعدي يتناسب مع الظروف الحالية المحيطة بنا.
لا أعرف ماذا جرى لها، فجأة تحولت إلى إنسان آخر، تحولت ثلاثمائة وستين درجة، حين كنا في نقطة دائرة المركز بلا أقطار تحوطنا وتحيط بنا، وزعمت – حسب آخر رسالة بيننا – أنني آخر من يحمل لها رحمة أو شفقة أو معاونة على مصاعب الحياة، رغم أني أكثر الناس صدقاً معها ومع غيرها، إذ ليس في الحب خداع، لكنها أصرت على رأيها وتركتني خائب الرجاء وتائه الأفكار.
لم تكن محطة لندن آخر المحطات بيننا كذلك، ولا محطة مترو الأنفاق بوستمنستر التي كانت من أمتع وأروع اللحظات التي قضيناها معاً، حين ذهبنا للتسكع في المدينة واحتسينا النبيذ في حانة “كلوز فرند”، وزرنا حديقة هايد بارك، ولم تفارق أيادينا بعضها البعض منذ الوهلة الأولى، وكأننا زوجان حديثا العهد بالزواج ولا نريد فكاكاً، لكنها أبت إلا أن تخون العهد الذي بيننا، لا أدري لماذا؟
في أحد شوارع لندن الليلية ذات القسمات الحرة، حيث الحريات العامة وحقوق الإنسان الجميل، تناولنا أرجوانتين بلا تغييب للوعي، بعد خروجنا من الحانة بقليل، وجلسنا ننظر إلى المارة بلا نهاية، بل بالعكس، كأنها البداية التي يجب أن ننطلق منها إلى آفاق الحياة الجديدة، ذات الثقافة الغربية التي يفرضها المجتمع الغربي – بعض – ويمنعها البعض تحت موانع العَلمانية، وحجة المحافظة على التقاليد والعادات الاجتماعية السودانية، بكل حسناتها وسيئاتها، لكن كل تلك المحاولات البائسة واليائسة في محاولة التغلب على التربية الأسرية المحافظة، وفي غياب الرقيب خلا القلب والفكر، حدث ما لم يكن في الحسبان، ولك أن تتخيل مدى المتعة العابرة للحدود، والغابرة للقيم والمبادئ الأساسية لشخصينا الضعيفين أمام الغرائز والنوايا الطيبة الصادقة، فكان لا بد مما ليس منه بد.
لعلها شعرت بدوار خفيف أدى إلى صداع شديد، لا أدري ما السبب حقيقة، هل من تدخين الأرجوانة أم مما حدث قبلها بقليل، المهم في الأمر، حملتها على أحسن ما يكون الرفق بالإنسان إلى حيث تسكن، في الطابق الثالث، شارع سانت كاثرين، جادة آشتون، المبنى رقم 5 l , o , v , e، حتى أوصلتها لغرفة النوم، ولم يطب لي أن أغادرها وهي في هذه الحالة الحرجة، إذ ليس من المروءة في شيء، فانتظرتها حتى باتت في سبات عميق، ولم يحدث ما تظنه أيها القارئ اللبيب، بل بالعكس، غطيتها وذهبت حيث شارع جورج كلوني، مكان إقامتي بداون تاون.
اتصلت عليها صباح اليوم التالي للاطمئنان على صحتها، ولم ترد على الهاتف، واكتفت برسالة على الواتساب مفادها: (أشكرك لما قمت به تجاهي، كانت لحظات ممتعة، لكن لا تتوقع رؤيتي مجدداً)، ولعلها قامت بحظري على كل وسائل التواصل الاجتماعي، لا أدري لماذا؟
بعد مضي ثلاثة أشهر تقريباً، رن هاتفي المحمول من رقم مجهول، فكان محدثي هو زوجها، الذي تجمعني به صداقة لا بأس بها، زوج (البنت العجيبة)، يخبرني قلقاً ومنزعجاً أن زوجته حملت في غيابه، ولم أدرِ ماذا أقول له لحظتها، لكن بعد تردد أخبرته بأن الأمر علمي طبيعي للغاية، فلك أن تنظر لآخر مرة كنتما سوياً والشيطان ثالثكما، فلا تقلق بشأن السودان، ولا بيان الرباعية الدولية، ولا بالسلم السباعي، فآخر النفق المظلم ضوء خافت، ربما يكون “أبْ لَمَبَّه”، الله أعلم أي ذلك كان.
فيما بعد، حاولت مراراً وتكراراً الاتصال بها أو الوصول إليها فلم أفلح بشتى الصور، فذهبت عنقاء مغرب، وتفرقنا أيدي سبأ، والله المستعان.
القصة لم تنته بعد، ولن تنتهي بنهاية الحدث كما بقية الأحداث المتشابهة لبقية البشر، وغي السودان بالذات، فإذا كانت (البنت العجيبة) صادقة على الوعد والعهد القديمين – لنقل بحسن النوايا الطيبة لا المصالح المشتركة – الذي قطعته معي وهي تبكي على كتفي بكاء الفصيل على أمِّه، فأنا كذلك، وإلا فلتخبرني، بعد كل هذه الفترة الطويلة التي غبنا فيها عن بعضنا البعض، ممن حملت، حال كان زوجها صادقاً لا متهوراً حين اتصل بي من رقم مجهول، ولم يكن الشيطان ثالثهما؟
أنا على يقين أنها على قيد الحياة، في أحد زوايا الكوكب الضيق المسمى الأرض، ولنقل إنها في حانة (الأصدقاء المغلقة)، تحتسي قليلاً من النسكافيه مع نفثات الأرجوانة العتيقة، حيث كنا نجلس هناك الساعات الطوال، قبل مغادرتي لندن وشوارعها الليلية المترعة بالحب والحياة، وبعد غيابها الغريب المريب كذلك، تقرأ هذه الرسالة حيث كانت من طرف خفي، قصتنا بين سطورها وشكولها، بيد أنّا لا نجيب، إنه الكبرياء يا فتى، ولا نامت أعين العشّاق يا صاح.




