شادي منصور
تُعدُّ مسألة أصل الإنسان من أكثر المواضيع التي أثارت النقاش عبر التاريخ، حيث يلتقي فيها البعد الديني بالبحث العلمي. تحتل قصة آدم وحواء مكانة محورية في الديانات الإبراهيمية، إذ تُصوَّر على أنها البداية الأولى للوجود البشري.
وفقًا لهذه الرواية، فإن جميع البشر ينحدرون من زوج واحد عاش قبل بضعة آلاف من السنين. غير أنّ العلوم الحديثة، من علم الوراثة والأنثروبولوجيا وحتى الحفريات، ترسم صورة مختلفة تمتد عبر مئات آلاف السنين، ما يجعل من الضروري إجراء قراءة مقارنة تُبرز الفجوة بين التصور الديني التقليدي والمعرفة العلمية المعاصرة.
الرواية الدينية: وحدة الأصل وزمن قصير
يُصوَّر آدم وحواء في النصوص الدينية كأول زوج بشري، ومنهما انحدرت البشرية جمعاء. تمنح هذه الفكرة الناس شعورًا بالوحدة الروحية والأصل المشترك.
وتذهب بعض التفاسير إلى أن عمر البشرية لا يتجاوز ستة أو سبعة آلاف عام، بالاعتماد على تسلسل الأنساب الواردة في الكتب المقدسة. تركز هذه الرؤية على الدلالات الأخلاقية والرمزية أكثر من اهتمامها بالتفاصيل الزمنية أو العلمية.
الإشكاليات العلمية حول العدد والزمن
حين نعرض هذه الفرضية على البحث العلمي، تظهر عدة إشكاليات:
من الناحية السكانية، يصعب تصديق أن مليارات البشر اليوم نتجوا عن شخصين فقط خلال بضعة آلاف من السنين، خاصة أن النمو السكاني قديمًا كان بطيئًا بسبب ارتفاع الوفيات وقصر الأعمار.
الحسابات الديموغرافية تشير إلى أن الوصول إلى هذا العدد من البشر يحتاج عشرات الآلاف من السنين، لا بضعة آلاف فقط.
الدراسات الجينية أوضحت أن التنوع الوراثي الحالي لا يمكن تفسيره بانحدار البشرية من شخصين فقط، بل هو حصيلة طفرات وتغيرات امتدت عبر أزمنة طويلة.
التنوع العرقي والجيني: تفسير علمي لا أسطوري
من أبرز التحديات أمام الرؤية الدينية تفسير تعدد الأعراق واختلاف الصفات الجسدية. يثبت علم الوراثة أن هذه الفوارق حصلت نتيجة تكيفات بيئية طويلة الأمد:
البشرة الداكنة مثلًا تحمي من الأشعة فوق البنفسجية في إفريقيا، بينما البشرة الفاتحة في الشمال تساعد على امتصاص فيتامينD.
شكل العينين أو البنية الجسدية يرتبطان بالتكيف مع المناخ البارد أو الحار.
وتشير الأبحاث الحديثة إلى أن الإنسان العاقل حمل آثار تزاوج مع جماعات بشرية أخرى مثل النياندرتال والدينيسوفان، ما يؤكد أن البشرية الحالية نتاج تداخل سلالات متعددة، وليست امتدادًا لسلالة واحدة نقية.
الأدلة الأحفورية: عمر الإنسان العاقل
الآثار المكتشفة أعادت رسم خط الزمن لوجود الإنسان العاقل:
في المغرب (جبل إيغود)، وُجدت بقايا بشرية عمرها حوالي ثلاثمئة ألف سنة، وهي من أقدم ما عُرف حتى الآن.
في إثيوبيا، عُثر على هياكل تعود إلى نحو مئتي ألف سنة.
الهجرات الكبرى من إفريقيا إلى آسيا وأوروبا بدأت قبل أكثر من ستين ألف سنة، وهو ما تدعمه الدراسات الجينية والحفريات.
الرسوم في كهوف “لاسكو” بفرنسا، التي تعود إلى أكثر من عشرين ألف سنة، تثبت وجود حياة ثقافية ورمزية متقدمة منذ زمن بعيد.
الهجرات الكبرى وأصل الأعراق
النظرية الأوسع قبولًا لتفسير تنوع البشر هي “الخروج من إفريقيا”: الإنسان العاقل نشأ في أفريقيا قبل نحو مئتي إلى ثلاثمئة ألف سنة.
موجات الهجرة انطلقت منذ حوالي ستين-سبعين ألف سنة نحو آسيا وأوروبا، ثم وصلت إلى الأمريكيتين عبر مضيق بيرينغ قبل نحو خمسة عشر ألف سنة.
اختلاف البيئات والمناخات عبر القارات أدى إلى ظهور الفوارق العرقية المميزة لكل مجموعة.
الأصل المشترك: بين الرمز والعلم
على الرغم من التباعد بين الطرح الديني والطرح العلمي، إلا أن هناك نقطة التقاء: فكرة الأصل الواحد.
الدين يعبّر عن ذلك من خلال قصة آدم وحواء، بما تحمله من معانٍ روحية وميتافيزيقية.
العلم يثبت أن جميع البشر اليوم يشتركون في أسلاف عاشوا في إفريقيا قبل مئة وخمسين إلى مئتي ألف سنة، وهو ما تؤكده أبحاث الحمض النووي الميتوكوندري.
الفرق أن الدين يُبرز الجانب الرمزي، بينما العلم يقدّم التفسير التجريبي المبني على الأدلة.
خاتمة
تكشف المقارنة بين الرؤية الدينية والمعطيات العلمية الحديثة عن وجود مستويين مختلفين للتفسير: مستوى رمزي يركّز على وحدة البشر ومعناها الروحي، ومستوى علمي يعيد بناء أصل الإنسان عبر الحفريات والدراسات الجينية.
وإذا كانت النصوص الدينية تحصر تاريخ البشر في بضعة آلاف من السنين، فإن العلم يمد هذا التاريخ إلى مئات آلاف السنين، موضحًا أن التنوع الحالي ثمرة مسار طويل من التكيفات والهجرات وتداخل السلالات.
هذا التباين بين الديني والعلمي لا يضعهما في صدام مباشر، بل يعكس اختلافًا في زاوية النظر: فالدين يقدّم معنى روحيًا وأخلاقيًا لوحدة البشر، بينما يعتمد العلم على الأدلة المادية لإعادة بناء التاريخ الإنساني.
غير أنّ قوة المعطيات الأثرية والجينية تجعل التفسير العلمي أكثر إقناعًا في تتبع أصل الإنسان وفهم تنوعه، إذ يمد جذور البشرية إلى مئات آلاف السنين، ويبرهن على مسار طويل من التطور والهجرات والتكيفات.
وهكذا، يبدو أن العلم هو الأداة الأوثق لرسم صورة دقيقة عن نشأة الإنسان، مع بقاء البعد الرمزي للدين إطارًا مكملًا للمعنى لا للمعلومة.




