د. خالد خالص
منذ أسبوعين فقط، كانت الأغلبية تنظر إلى جيل Z-212 كحركة شباب متنور، واعٍ، متصل بالعالم، خرج في البداية بشكلٍ سلمي ليطالب بإصلاحات هيكلية في مجالات التعليم والصحة والعدالة والحكامة، ليجسد أمل الشباب – بل وأمل المغاربة جميعا – في مغرب أفضل.
كانت أصواتهم تعبر بصدق عن معاناة حقيقية، وعن توق مشروع نحو الإنصاف والشفافية.
لقد خلقت جيل زيد 212 في المغرب حركة دينامية إيجابية في التواصل والنقاش العمومي، وبدأنا نعاين حوارات غنية على القنوات العمومية والخاصة، فتولد إحساس عام بأن المغرب يشهد يقظة جديدة.
وقد ساندت، مثل غيري، هؤلاء الشباب في بداياتهم، واعترفت بنبل قضيتهم ومشروعية مطالبهم، ما دامت لا تخرج عن الإطار المدني السلمي.
غير أنني نبهت مبكرا، بالموازاة، إلى هشاشة حراك الشباب هذا وإلى قابليته للاختراق من طرف المنحرفين وذوي السوابق، ومن قبل الوجوه السياسية القديمة الباهتة التي تتربص بأي حراك شعبي، فضلا عن الخصوم الخارجيين الذين يتمنون زعزعة استقرار الوطن.
وجاءت الأيام التالية لتؤكد تلك المخاوف: فقد استغل بعض المنحرفين الفوضى منذ اليوم الرابع من التظاهر لغايات شخصية، وبدأنا نعاين انزلاقات وصدامات وأعمال إجرامية من تكسير ونهب وسقوط ضحايا أبرياء، واعتقالات ومحاكمات وأحكام وصلت في استئنافية أكادير لوحدها إلى 162 سنة سجنا موزعة على 17 ضنين في أحداث التخريب.
فتحول المشهد من احتجاجٍ مدني حضاري إلى فوضى ميدانية أفقدت للحركة معناها الرمزي وبعدها الأخلاقي ورسالتها الأصلية.
وصار كثير من المغاربة الذين رأوا في الجيل Z-212 طاقة جديدة لبناء الوطن، يتساءلون وينأون بأنفسهم عن الحركة بعدما أدركوا أن الخط الفاصل بين النضال والفوضى بدأ يتلاشى، وأن المجرمين والقروش المفترسة بدأت تتبنى مواقف الجيل وتستغلها.
كما لاحظوا بأن غياب القيادة الواضحة لجيل زيد 212 يزيد من الضبابية ويضعف الثقة.
ثم انتقل جيل زيد 212 بعدها من الصحة والتعليم والعدالة الاجتماعية الى المطالبة بإقالة رئيس الحكومة وإقالة الحكومة وحل البرلمان و”محاكمتهم من قبل الملك”، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين سواء من خلال البلاغات والشعارات او من خلال الرسالة المفتوحة الموجهة للملك كما أصبح لجيل زيد امتدادات وصدى إعلامي بالخارج.
وحين قررت الحركة تعليق خروجها إلى الشارع إلى ما بعد خطاب الملك بمناسبة انطلاق السنة التشريعية الأخيرة من عمر البرلمان إما احتراما للملك أو في انتظار ما سيأتي به الخطاب، أشاد الجميع بهذا الموقف الناضج، الذي عكس وعيا مدنيا ووطنية راقية.
لكن بعد الخطاب الملكي، الذي أكد فيه العاهل المغربي تشبثه بالمؤسسات ودعا الجميع إلى المسؤولية والتعبئة الوطنية، توصلنا بعد اثنين وسبعين ساعة ببلاغين منسوبين للحركة: الأول يدعو إلى التظاهر مجددا يوم 18 أكتوبر في جميع المدن المغربية، والثاني يدعو إلى مقاطعة مباراة المغرب والكونغو المقررة مساء 14 أكتوبر 2025.
وإذا كنا نساند الحركة في مطالبها المدنية السلمية، فإننا نسجل بأن الدعوة إلى مقاطعة مباراة كرة القدم قد كشفت المنحدر الذي وصلت إليه الحركة بسبب انعدام التجربة من جهة وغياب القيادة والتأطير من جهة أخرى.
فمجال الرياضة، وخاصة كرة القدم، ليس ساحة لتصفية الحسابات أو للمزايدات السياسية، بل رمز للوحدة الوطنية، ومساحة للفخر الجماعي التي يلتقي فيها المغاربة على اختلاف فئاتهم.
لقد شيدت الملاعب المغربية في مدد قياسية بأموال دافعي الضرائب بعد سنوات من الجهد والتخطيط، لتستضيف تظاهرات وطنية وعالمية كبرى تشرف البلاد.
فكيف يعقل أن نقبل نداء للمقاطعة عشية مباراة دولية حاسمة بين المغرب والكونغو، تقام فوق أرض الوطن، وفي ملعب يفتخر به حتى خصوم المغرب؟.
وهل يدرك أصحاب هذا النداء ما قد يسببه من إحباط نفسي ومعنوي لعناصر وطاقم المنتخب الوطني الذي يحقق الانتصار تلو الانتصار؟.
ألم يكن هذا النداء خطأ استراتيجيا كاد أن يتسبب في زرع للانقسام في لحظة يفترض أن تكون عنوانا للوحدة والنصر والفخر الوطني؟.
وقد صدق حكيمي حينما تسائل أمام الصحافيين عند نهاية المباراة: “أنا معرفتشي علاش نتوما كاعيين وحنا رابحين”.
إن الدعوة إلى المقاطعة – التي لم تلق استجابة تذكر – لم تكن لتمس فقط بمعنويات الفريق الوطني لا قدر الله، بل لأنها قد تسهم في ضرب عمق الاقتصاد المغربي وقطاعي الرياضة والسياحة، وتؤدي إلى تشويه صورة المغرب في الخارج بدل أن تخدم قضاياه الوطنية.
فلا يعقل أن نطالب بإصلاح قطاعي الصحة والتعليم من خلال هدم قطاع الرياضة بصفة عامة، وكرة القدم بصفة خاصة، وهي التي تعيش اليوم ذروة مجدها، وأصبحت من جهة أخرى سفيرة فوق العادة للمغرب، ترفع رايته وتوحد مشاعر فخره الوطني في لحظات نادرة من الإجماع والفرح.
ولا يمكن أن نرفع شعار الإصلاح الحقيقي ونحن نقوض ما هو ناجح، ونضعف رموز وحدتنا وفرحنا الجماعي، لأن بناء الوطن لا يكون بالهدم، بل بالإصلاح المتوازن الذي يعزز المكتسبات ويقوي ما تحقق من إنجازات.
ويسجل التاريخ بأن أسود الأطلس قد حققوا انطلاقا من قطر إنجازات تاريخية رفعت راية المغرب عاليا في المحافل الدولية، كان آخرها فوزه المستحق على منتخب الكونغو، وتربعه على صدارة التصنيف العالمي بعد تحقيقه انتصاره السادس عشر على التوالي، دون الحديث عن تأهل فريق المغرب لما تحت العشرين لنهائيات كأس العالم مما جعل الجميع يرى في المغرب دولة حديثة وطموحة وذات مشروع كروي متكامل.
إلا أنه حين تختلط المطالب الاجتماعية بالشعارات السياسية والمواقف الشعبوية كمقاطعة مباريات كرة القدم، يفقد الحراك بوصلته ويضيع رصيده الرمزي.
فالاحتجاج الذي كان يفترض أن يكون صوت العقل، يتحول شيا فشيئا إلى مرآة للفوضى، والمطالب المشروعة تختنق وسط الأصوات المتطرفة.
لقد استطاعت حركة جيل 212-Z أن تحدث في المغرب صدمة إيجابية في بدايتها، وأن تضع قضايا الشباب والمجتمع بأسره على طاولة النقاش الوطني، غير أن استمرارها وبقاءها فاعلة يظل رهينا بقدرتها على تجنب الاختراق والانحراف وإعادة التموقع في مسار مدني ووطني وواقعي مع تقديم دفتر مطالب اجتماعية قابلا للتنفيذ هدفه الصالح العام دون المساس بالقطاعات التي تحقق إنجازات وتعرف نجاحات تسهم في تعزيز صورة الوطن ووحدته.
ولا يتعلق الأمر فقط بمدى استمرارية الحركة، بل أيضا بمصداقيتها، إذ على جيل Z-212 أن يختار قيادة نزيهة ومسؤولة، تعبر بوجه مكشوف عن نبض الشباب، وتتمتع بالمصداقية والشرعية الأخلاقية، قادرة على تأطير المطالب وتنظيمها في إطار وطني جامعٍ، يرفض الفوضى ويؤمن بالإصلاح البناء.
* محامٍ بهيئة الرباط




