تتسع في الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية خلال الأسابيع الأخيرة موجة مقارنة غير مسبوقة بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والملك الفارسي القديم كورش الكبير، في استعارة مشحونة بالرمزية الدينية والسياسية تعكس طبيعة العلاقة الخاصة التي تربط ترامب بإسرائيل منذ وصوله إلى البيت الأبيض وحتى عودته مجددا إلى المشهد الدولي كوسيط في اتفاق وقف الحرب بغزة.
ففي الخطاب الإسرائيلي، لم يعد يذكر ترامب باعتباره مجرد حليف إستراتيجي أو راع سياسي، بل يستحضر اسمه مقرونا بلقب “كورش الكبير” الحاكم الذي تروي الأسفار العبرية أنه سمح لليهود بالعودة من السبي البابلي إلى القدس وبناء الهيكل من جديد.
هذا التشبيه الذي انطلق أولا من بعض الدوائر الدينية واليمينية المتطرفة، سرعان ما تبناه كتاب وصحافيون، بل وأعيد استخدامه رسميا في بعض الحملات الدعائية المصاحبة لزيارة ترامب الأخيرة إلى إسرائيل.
اللوحات الإعلانية التي غزت شوارع القدس وتل أبيب حملت صور ترامب إلى جانب العلمين الأمريكي والإسرائيلي، وتحتها عبارة: “كورش الكبير على قيد الحياة”.
الشعار بدا أكثر من مجرد مديح، إذ يجسد رؤية إسرائيلية ترى في الرئيس الأمريكي امتدادا رمزيا لملك غير مسار التاريخ القديم حين أطلق حرية اليهود الدينية بعد قرون من الأسر.
وبحسب هذه القراءة، فإن ترامب هو من “أعاد الحياة” إلى هذه الرمزية عبر دوره في إنهاء الحرب وإعادة الرهائن، وهو ما يفسر، جزئيا، موجة الاحتفاء الشعبي والإعلامي به داخل إسرائيل في الأسابيع الأخيرة.
لكن هذه المقارنة، وإن بدت ذات طابع ديني، فهي في جوهرها سياسية بامتياز. فإحياء صورة كورش اليوم يأتي في سياق احتياج إسرائيلي لشخصية قادرة على منحها شرعية أخلاقية ودبلوماسية في ظل العزلة الدولية المتزايدة التي واجهتها خلال حرب غزة الأخيرة.
وترامب، باندفاعه السياسي واستعداده لكسر الأعراف الدبلوماسية، يمثل في المخيال الإسرائيلي نموذج “الملك الحامي” الذي يتجاوز الحدود من أجل “خلاص إسرائيل”.
وفي مفارقة لافتة، يبدو أن ترامب نفسه وجد في هذا اللقب بعدا شخصيا ينسجم مع صورته التي يسعى إلى ترسيخها كرجلٍ ذي “رسالة قدرية”.
فحين أعاد نشر مقطع للإعلامي الأمريكي واين ألين روت يلقبه فيه بـ”ملك إسرائيل”، لم يكتف ترامب بالترويج له فحسب، بل عززه بتعليق يعكس إعجابه الواضح بالمقارنة التاريخية.
هذه الإشارات، التي قد تبدو رمزية في السياق الأمريكي، تستقبل في إسرائيل كدلالات سياسية ودينية عميقة.
كورش الكبير، أو سايرس كما يعرف في المصادر الفارسية، لم يكن يهوديا، لكنه يُقدَّم في المرويات الدينية اليهودية بوصفه “أداة الخلاص الإلهي”، الملك الذي منح الحرية الدينية لشعوب المنطقة في القرن السادس قبل الميلاد.
وقد خلد التاريخ ذلك في “أسطوانة كورش”، المحفوظة اليوم في المتحف البريطاني، والتي تعد أول إعلان مكتوب لحرية المعتقد في التاريخ القديم. هذا الإرث جعل من كورش شخصية جامعة في الذاكرة الإنسانية، ورمزا للتسامح والعدل في المخيال اليهودي.
الاستدعاء الإسرائيلي لهذه الرمزية ليس جديد تماما ؛ فقد سبق أن استخدمه قادة سياسيون لتبرير سياسات توسعية أو خطوات دبلوماسية مثيرة للجدل.
غير أن المقارنة مع ترامب تحمل بعدا إضافيا، إذ تستعمل لتصويره كمنقذ من عزلة ما بعد الحرب، وكرجل جاء من خارج المؤسسة ليعيد “الهيكل السياسي” لإسرائيل في مواجهة انتقادات المجتمع الدولي.
ويرى مراقبون أن هذا الخطاب يعبر عن حاجة داخلية إسرائيلية إلى استعادة سردية الخلاص التاريخي في زمن الانقسام والقلق. فبعد حرب غزة التي تركت ندوبا عميقة في الوعي الإسرائيلي، يأتي ترامب ليجسد “رمز القوة والحماية” الذي يعيد ترميم الثقة المهتزة بين الدولة ومواطنيها، وهو ما يفسر الترحيب الشعبي العارم بزيارته، واحتفالية البرلمان الإسرائيلي به..
في المقابل، يشير محللون إلى أن استخدام الرموز الدينية في الخطاب السياسي قد يعكس ميلًا متزايدًا داخل إسرائيل نحو تسييس الذاكرة الدينية لتبرير تحالفات مرحلية، خصوصا في ظل واقع إقليمي متفجر تتقاطع فيه مصالح القوى الكبرى مع الدين والتاريخ. فـ”كورش ترامب” ليس مجرد استعارة بل أداة تعبئة تستثمر في الوجدان الجماعي لتبرير تحولات سياسية حادة.
وبينما يواصل ترامب توظيف هذا الزخم الرمزي في مسيرته الانتخابية المقبلة داخل الولايات المتحدة، يظل السؤال المطروح في إسرائيل..
هل سيبقى “كورش القرن الحادي والعشرين” رمزا للخلاص السياسي المؤقت، أم أنه سيتحول إلى جزء من سردية أعمق تربط الدين بالسياسة في الشرق الأوسط الجديد؟





تعليق واحد