يشبه حدث “اتفاق الدفاع الاستراتيجي المشترك” بين السعودية وباكستان الذي أُبرم في الرياض، بشكل صاعق، الأربعاء، طباع وليّ عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان. لا أعراض كانت تتيح استشراف الحدث. ولا حاجة لتسريبات مسبقة توحي بالشيء من دون وقوعه.
والحكمة في مدارة الحوائج بالكتمان. كان الأمير الشاب أثار قبل سنوات مسألة “الوقت”، وتوقه إلى حرق المراحل من أجل خدمة بلده والمنطقة برمتها.
غضبت العواصم من إثم ارتكبته إسرائيل ضد عاصمة خليجية. انطلقت راجمات المواقف والتصريحات، “كالمعتاد”، مندّدة مستنكرة. وحده الأمير محمد أخرج من عباءته الوجهة والقرار.
لا وقت. التطوّر داهم. يتوعد بذهاب حكومة إسرائيل بقيادة بنيامين نتنياهو إلى أبعد سقف لفرض واقع ما بعد “طوفان الأقصى” على “كل المنطقة”، بلدا بلدا.
لا شجاعة وبأس في ذلك. فإسرائيل تستغل بإفراط لحظة دولية نادرة وفّرت لنتنياهو وصحبة الدعم والتأييد والتضامن.
زحف زعماء المنظومة الغربية لمواساة إسرائيل في “مصابها”، فيما استكانت دول كبرى مثل روسيا والصين، ولم تشكل ودول الجنوب رافعة مضادة.
فوق ذلك جاء دونالد ترامب ليزيد على “العربدة” جرعات لا سقف لها، يشهد أهل غزّة هذه الأيام ساعتها الكارثية القاتلة.
في لحظة ما بعد “مصاب الدوحة” في 9 أيلول الجاري، أنهى وليّ العهد السعودي سنوات من التعويل التقليدي على اتفاق أمني استراتيجي مع الولايات المتحدة.
أسقط “حدث الدوحة” الخيار الأميركي. بات من الضرورة للسعودية وكل دول الخليج استخلاص العبر واستنتاج أن “الضمانات الأميركية” تسقط حين تكون إسرائيل مصدر الخطر.
لم يخفَ على الرياض أن واشنطن كانت شريكة وضالعة بما أصاب العاصمة القطرية، حتى لو أقسمت الإدارة بارتباك صبياني أنها “لم تكن تعلم”.
لا بأس من قمّة عربية إسلامية. ولا بأس من نصّ شامل يُسجل موقفا عربيا إسلاميا يبعث برسائل جديدة إلى الحاكم في البيت.
لكن بوصلة الرياض باتت مصوّبة نحو وجهة أخرى. هو الشرق، لا سيما في بعده الإسلامي الذي تمّ تجاهله طويلا في حسابات الأمن الاستراتيجي العربي.
تمتلك السعودية مع باكستان علاقات عتيقة تاريخية. تَشَاركَ البلدان في مواجهة استحقاقات وتحديات مرت على العالم خلال القرن الأخير.
تطوّرت علاقتهما العسكرية، لكن تقارير أفشت أن السعودية وقفت ماليا خلف البرنامج النووي الباكستاني. يغمز العارفون أن السعودية شريك خفي في صناعة تلك القنبلة النووية التي تصفها مراجع الاختصاص بأنها “القنبلة السنّية”.
كانت واشنطن تعرف. لم تجد في الأمر ضيراً في ظروف وشروط الحرب الباردة. ولم يحصل أن أثار الأمر جلبة، طالما أن قنبلة باكستان بقيت في باكستان، ولم يصدف أن تسرّب من الرياض ما يوحي بخطط لاستدراجها.
الأرجح أن فكرة دمج دفاعات البلدين تخالج قيادة البلدين منذ سنوات. كانت حسابات السعودية وباكستان وحساسية أجندتهما في دوائرهما الإقليمية والدولية تحول دون اندفاعة غير محسوبة.
في أيار (مايو) أبلت باكستان بلاء مدهشا مفاجئا في ردّ الهجوم الهندي الواسع. أفرجت باكستان عن كفايات عسكرية ممتازة وعن امتلاكها تكنولوجيات متقدمة وأسلحة حديثة داهمت الطرف الهندي.
كان على دونالد ترامب في واشنطن أن يتدخل بقوة لوقف حرب لا سيطرة على نتائجها. صدف حينها أن ابتسمت الصين حليفة باكستان ومورّدة سلاحها، مبتهجةً من نصر لم تسعَ إليه.
قبل ذلك في نيسان الماضي أبرم الزعيم التركي، رجب طيب أردوغان، في باكستان اتفاقا مشتركا لتصنيع أسلحة استراتيجية منها طائرة مقاتلة من الجيل الخامس. باتت باكستان رقما صعبا.
كان الأمير يراقب المشهد. في الدوحة، حيث الحدث، جرى اللقاء. اجتمع وليّ العهد السعودي ورئيس الوزراء الباكستاني، محمد شهباز شريف. وضع الزعيمان نقاطا كثيرة على الحروف.
ولئن كان الحسم سعوديا، فإن باكستان كانت جاهزة، وربما تنتظر هذه الفرصة التاريخية، بحيث باتت من خلال الرياض دولة نووية إقليمية تدخل مشهد الشرق الأوسط من الباب العريض.
“من الآخر”. نقلت “رويترز” عن مسؤول سعودي كبير أن الاتفاق يعني أن “كل بلد ملزم بالدفاع عن البلد الآخر إذا ما تعرّض لهجوم مسلح”. هذا من بديهيات الأحلاف الدفاعية.
وهذا تماما ما تنصّ عليه المادة الخامسة الشهيرة لحلف شمال الأطلسي. لكن المسؤول السعودي يضيف تفصيلا هو بيت القصيد: اتفاق الدفاع الاستراتيجي بين السعودية وباكستان “يشمل جميع الوسائل العسكرية”.
كان من الضرورة إبراز هذا المعطى من بين سطور نصّ الاتفاق. ولمن فاتته القراءة، فإن المظلة النووية الباكستانية باتت تمتد فوق المملكة.
الهند أبدت قلقا. الرياض تعهدت أن لا ينال الاتفاق من علاقاتها الممتازة مع نيودلهي. إيران تتأمل ذلك التحوّل بعد نكستها في سوريا.
في واشنطن يقرؤون الخبر ويجهدون في فهم دينامية انزلاق الأمور إلى خطوط كانت تحت السيطرة. وحدها إسرائيل تلقت الصفعة.
الحدث يقلب موازين القوى. ينهي، أو يخط مسارا لإنهاء، حالة التفوّق الاستراتيجي التي تهيمن بها إسرائيل على كل المنطقة. تعيد الرياض وتكرر: “هو اتفاق دفاعي”.
لن تجده إسرائيل دفاعيا. بات عليها أن تتعامل مع هذا المعطى الذي يخلّط الأوراق ويغيّر قواعد الاشتباك. بالمقابل، ولأول مرة، بات على السعودية وباكستان، معا، أن يرسما قواعد اللعبة الجديدة.