في جلسة ممتعة كشف فيها الدكتور والأديب والشاعر اليمني محمد الشميري عن تجربته التي بدأت من طفولة ريفية مليئة بالحنين والمغامرات، ومرّت بحادث مؤلم غيّر مسار حياته، وانتهت إلى إعاقة أضاءت في داخله شعلة التفاؤل والحياة، لتتجسد كل تلك المحطات في شعره ونصوصه المفعمة بالصدق والجرأة.
قال الشميري: وُلدتُ في قرية الحُقيل، وهي تصغير لكلمة “حقل”، تلك القرية التي صنعها الناس بأيديهم، أقول هذا حرفيًا، فهي لم تكن أرضًا خصبة، بل أنشأ أجدادنا حقولهم الزراعية من تجميع الحصى والطين، ثم حددوها بأحجار جلبوها من بطون الجبال، فكانت أراضٍ صغيرة غالبيتها حصى، حتى أن الزرع كان يعاني أشد المعاناة قبل أن يخرج من البذور إلى سطح الأرض، وربما لتبرير قِصَري كنت أشبه ذلك الزرع المحاصر، ومع ذلك عشت طفولة رغيدة مدللة، ربما لأني كنت أول الذكور بعد ثلاث أخوات، أكاد أجزم أنني فهمت فرحتهم بي واستغليتها كل الاستغلال، ومع توالي الذكور حتى بلغ عددنا عشرة، بقيت على دلالي القديم، لم أحمل دَبّة ماء، ولا حزمة زرع أو حطب، ولم أمارس شيئًا سوى كرة القدم والتفوق الدراسي وبيع الشوكولاتة واللبان في أعراس النساء، وربما لن يصدق أحد أن أكثر ما علق بذاكرتي من طفولتي هو اللحظة التي حاولت فيها الطيران من سطح الدور الثالث وأنا لم أتجاوز الرابعة، وكذلك كيف كنت أسفح كريم الشعر الخاص بأمي لأجعل شعري المجعد أكثر نعومة، فقط لينال إعجاب زميلتي المصرية في الصف الثالث.
وعن بداياته مع الشعر قال: منذ طفولتي قرأت القرآن وحفظت معظمه، ودرست النحو والمنظومات الفقهية والسلوكية، وكان يجذبني سجعها، وما زلت حتى اليوم أحفظ الكثير منها، في المدرسة أحببت ميكروفون الإذاعة المدرسية، وحفظ وإلقاء الشعر، أتذكر أول مهرجان جماهيري كبير شاركت فيه، كنت حينها في الصف الرابع، وقدمت قصيدة للزبيري، واستمرت مشاركاتي حتى نهاية الثانوية العامة، وفي الجامعة كتبت أول قصيدة، ثم انشغلت لاحقًا بضجيج الحياة والعمل، ولم يعدني للشعر والأدب والفنون إلا القدر، حين حاول أن يسرق حياتي حادث السير عام 2007، لقد قرأت لمختلف الشعراء في كل العصور، وبالتأكيد ترك كل نص أو شاعر أو كتاب أثرًا في حروفي بطريقة أو بأخرى، وليس من باب المبالغة إن قلت إن دافعي الأكبر هو التمسك بالحياة ورفض الموت، وتعويض حياتي عن كل لحظة خوف من فتاوى الحرام المتربصة.
وعن دراسته للصيدلة قال: الصيدلة علم لا ينفصل عن لحظته الفنية، وكل تركيبة دواء هي اعتمالات وتفاعلات تشبه اللحظة الأولى للقصيدة، لذلك لم أشعر يومًا أن هناك مسافة فاصلة بين تخصصي وقصيدتي.
أما عن الحادث الذي غيّر حياته جذريًا فقال: عندما صافحني الموت ذات حادث وانصرف، أدركت أني لا أستحق إلا الحياة، هكذا كتبت في اليوم نفسه، لم أفقد وعيي، ولم تتوقف أصالة عن الغناء “سواها قلبي يا حبيبي وحبك”، أمسكت بيد الموت وأخذته معي إلى شغب الحياة.
وعن نصه الشعري الذي كتب بعد الحادث قال:
الموت، تحية طيبة
يلقيها الخلاص على أجساد لا ترد السلام،
الموت، إجابة فصحى على أسئلة كثيرة أخطأنا في طرحها،
العامية كانت حيلتنا الأولى،
لاقتراف الخلود..!
القواعد التي غرسناها في حنجرة الحب،
خرسانة تشد ضلوع الصمت،
ليكتمل الخرس..!
الموت الذي صافحني ذات حادث وانصرف،
ألقيت في وجهه أغنية واحدة:
سواها قلبي يا حبيبي وحبك،
ما طاعني وانا عن الحب ناهيه،
لا أفضل جمع الأغاني في ألبوم واحد،
ما أجمل ال..
وردة الملقاة وحيدة، على بعد النظر،
الأعشاب المتمردة على قوانين الهندسة الزراعية،
الإيمان المتحرر من فكرة الثواب، والشهوة المؤجلة..!
الموت متاح جدًا،
في الكتب الهاربة من رفوف المكاتب،
الموت لا يحب الأرقام،
ون،
تو،
ثري،
….
…..
……
ستوب.
الله الله الله،
ما أجمل السينما،
ما أقبح المخرجين..!
وعن الدرس الذي خرج به من تجربته مع الإعاقة قال: أول مكسب من الإعاقة هو الدرجة الوظيفية التي كنت محرومًا منها منذ التخرج لعدم وجود فرص، فحصلت عليها مباشرة ضمن حصة المعاقين، أما الدرس الأكبر فهو أن الوصول لا يحتاج إلى قدمين، سأعترف هنا أن حياتي لم تتغير كثيرًا بعدها، ربما لأني كنت قبلها وما زلت كسولًا حتى الآن.
ويضيف: كثيرون يرون الإعاقة سجنًا، وأنا لا أنكر ذلك، لكنها قد تكون أرحب فضاءً من قيود الواقع ومحذورات حياة الآخرين، أقول هذا لا ادعاءً للبطولة، بل لأنني ببساطة أعشق الحياة، وما زلت طفلاً في الخمسين من عمري، أرفض أن أكبر، لذا أعيش اللحظة كما هي، ولا أدخر جهدًا لأفعل ذلك، ولدي قناعة راسخة بأن التفكير في الإعاقة طويلاً والتوقف عندها لن يغيّر من حقيقتها شيئًا، لذلك أعيش شبر المتاح بكل جنوني.
وعن تجربته الشعرية يقول: لا أدري هل أنا شاعر أم لا، لكنني متأكد أنني أجيد التعبير عن لحظتي دون قواعد أو نظريات حاكمة للنص، لا أخطط، ولا أقصد، ولا أحب التنميط والتجنيس، أترك النص يحلّق مثلما حاولت أنا القفز في طفولتي، ولا أمنعه كما منعني أبي ذات مرة وهددني بحجر كان في يده، ما أكتبه هو انفعال وتفاعل مع الحياة واشتباك معها، لذلك يصفه البعض بالفوضوي، ويقول آخرون إنه نص طفولي يتقن الفصحى ثم يفرض لهجته القروية فجأة، بعض النقاد لا يحبونه خوفًا على برج اللغة من السقوط في المحلية، أما أنا فأحب كل نص حتى الضعيف منها.
ويضيف عن حضور المرأة في نصوصه: لابد أن أنوه لما قاله أحد الأصدقاء حين قرأ كتابي “رياح في قصاصة عنيدة”، إذ لاحظ أن المرأة حاضرة في كل نص، سواء كان غزليًا أو غيره، وأجده محقًا، فأنا رجل صنعته امرأة.
وعن قراءاته يقول: كل كتاب قرأته ترك أثرًا في وجهي وفي حرفي، أول رواية قرأتها كنت في الصف السادس، طلب مني رجل كبير لا يجيد القراءة أن أقرأ له “البؤساء” لفيكتور هوجو، ما زلت حتى اليوم أتذكر دهشتي التي لم أجد لها تفسيرًا، وعلى مستوى الشعر، رغم قراءتي للجميع تقريبًا، كنت أرى في شعر أبي القاسم الشابي تحررًا وبساطة أنيقة وتأثيرًا لا أقاومه.
وعن طقوس الكتابة يقول: لم أعش لحظة وحي كما أقرأ لكثير من الشعراء، حتى أنني في بداياتي كنت أظنهم قادمين من كوكب آخر، أكتب متى ما أردت، حين تخرج انفعالاتي وتفاعلاتي مع الحياة، كل لحظة نعيشها يمكن أن تكون نصًا، وقد تمر بي فترات لا أستطيع فيها الكتابة وإن حاولت.
وعن حضوره في المهرجانات والفعاليات الثقافية قال: هذا السؤال يمثل وجودي كله، لا أستطيع الجلوس بمفردي، ولا أذكر أنني طلبت يومًا لحظة انفراد بنفسي، أجد الحياة في مشاركة الناس، لذلك حضرت أغلب الأنشطة الأدبية والفنية والحقوقية، للأسف تحول الظروف الاقتصادية مؤخرًا دون ذلك، فألجأ لانتقاء فعالية واحدة كل شهر، أفسر هذا كله بعشقي للحياة وحب الناس، فكل إنسان يعزز حضوري ويضيف إلي.
أما عن المشهد الثقافي في اليمن اليوم فيقول: لا أعتقد أن هناك مشهدًا ثقافيًا مؤسسيًا جامعًا، لكن هناك نخب ثقافية نشطت في فترات وخبت في أخرى، حسب الظرف السياسي، وقد ظهر خلالها شعراء وأدباء تركوا بصمات تجاوزت المحلية، أما اليوم فالمشهد يقوم على مبادرات فردية وأصوات تحاول الإبداع رغم الخوف والجوع والبطالة، وربما يفسر هذا غزارة الإنتاج التي يغلب عليها الكم ويندر فيها الكيف، ومع ذلك هناك أقلام شابة استطاعت أن تجد موقعها عربيًا وإقليميًا، وأنا دائمًا متفائل ما دام هناك من يرفض الموت إبداعيًا.
وعن مشاريعه القادمة قال: أصدرت عام 2020 مجموعة “رياح في قصاصة عنيدة”، وهي خليط بين قصص قصيرة جدًا وومضات، قريبًا ستصدر مجموعة نصوص بعنوان “سرقت مشاقر أمي”، كما أن لدي رواية بعنوان “عيش أسمر” تحتاج إلى تنقيح، إضافة إلى مجموعة قصص قصيرة جدًا بعنوان “نجمة سقطت في الزقاق”.
وعن رسالته الشعرية والإنسانية اختصرها قائلًا: الكتابة الآن تشبه حركة القصور الذاتي، لا يحركها المعنى ولا تؤدي إلى شيء، حركة لم يصادق عليها القدر، أحاول الإيمان، لكن الفطرة العنيدة لا تعترف بالهدايات الساقطة من أعلى، إنسانيًا: لا تدخر كلمة جميلة يستحقها أحدهم.
وفي الختام قال: الأدب والفن والإبداع، سواء كان نصًا أو لوحة أو أغنية، ليس بالضرورة أن يكون صورة طبق الأصل من حياة المبدع، بل قد يكون عكسها، فلا تحاكموا المبدع، لأن النص هو ميدان النقد.
ثم قرأ نصًا شعريًا آخر:
المسافة بين كتفين،
أبعد من مستحيل معلّق،
في لوح الغياب،
يسألني البحر عن سنوات الموج،
كيف خطوتها،
ولم يلبس ضياعي أزرق الأمنيات؟
شكرًا لقهقهة لم تحرك تجاعيدها،
حبة الرمل الحزين،
شكرًا كما لا يليق بشجرة،
تهامس جذعها المحشو بالظل القديم،
شكرًا للوسادة التي تركتها الحديقة،
كي يغفو على ذاكرتها جنوني المعطّل،
شكرًا للصدى،
يسهر وحيدًا دون قبعة،
يسهر مثلما تقول الأغنيات،
وحين يتلعثم الفجر،
يؤذن الديك بعيدًا في أعالي الدمع،
شكرًا أيها الصمت،
وأنت تبحث في جراب الوقت،
عن صوف المرايا،
عن شتاء الوهم،
عن دفء القصائد،
والحنين،
حنيني المزدوج،
كعميل عبقري،
يكتب سيرته الذاتية،
وهو يدخن غليونه المتقاعد،
ينهي خدمة الموت،
ويقبض روحه في الورق.




