منذ أن أبصرت عيناي الدنيا، لم أرَ الإنسان إلا كما خلقه الله: دون عرق أو دين أو توجه سياسي. هذا هو المبدأ الذي لا أحيد عنه، والذي تربيت ونشأت عليه في بيت أسرتي.
فالإنسان، يا سادتي، هو الإنسان في كل زمان ومكان. ولست أخشى في الله لومة لائم حين أضع الإصبع على الجرح المدمل، حتى وإن كانت الحساسيات السياسية أو الدبلوماسية تتجنبه.
إن الصور المتواترة ليل نهار باتت لا تُحتمل، والأرقام المتفاقمة حقيقة يصعب استيعابها، وعجزُ العالم بأسره عن التحرك بات فعلًا يشل الإرادة أمام الفعل المطلوب.
جميعها تُعبّر عن مشهد مأساوي يتكرر يومًا بعد يوم، وما زال يكشف، في غزة، خيبة الأمم، حتى ولو كان بعضها لبعض ظهيرًا.
في السابع من أكتوبر من العام الماضي، نعم، شهد العالم رعبًا مروّعًا، وتحولت غزة إلى ساحة تراجيدية تحمل على عاتقها أسئلة أخلاقية وسياسية عميقة.
لكن هل ما نشهده معضلة حقيقية؟ أم أنه مجرد فخ مصداقية وقع فيه صانع القرار الألماني، نتيجة قصر نظر سياسي ومعايير مزدوجة؟
القيم والمبادئ: حيث تُرفع الشعارات وتُغتال الممارسة
تفاخر ألمانيا دائمًا بقيمها السامية والنبيلة أمام العالم، ولا سيما تمسكها بالنظام الدولي واحترام القانون الدولي، وهو ما يحق لها، بطبيعة الحال، التفاخر به.
لكن يا سادتي، من يرفع شعارات المبادئ الإنسانية على الملأ، عليه أن يلتزم بتطبيقها بشكل عادل وشامل. وهنا تكمن المعضلة الكبرى: فعلى الرغم من أن ألمانيا ترفع راية الدفاع عن القيم الإنسانية، فإن تطبيق هذه المبادئ في الشرق الأوسط يتم بصورة انتقائية وغير متسقة.
المشكلة ليست في التشكيك بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد تهديدات حماس، بل في الكيفية التي يُمارس بها هذا “الحق”، وفي الموقف الألماني من هذه المسائل.
تسلسل هرمي للمعاناة: لغة تؤرخ للظلم
أولى مكامن الخلل تكمن، يا سادتي، في اللغة المستخدمة. ففي حين تُعبّر معاناة البعض بوضوح تام، تُخفى أو يُقلل من شأن معاناة غزة.
فمثلًا: سقوط أكثر من 34 ألف ضحية، بينهم عشرات الآلاف من الأطفال، يُختزل إلى مجرد “أضرار جانبية”. أما الحصار المفروض على الماء والغذاء والدواء، فيُعتبر “إجراءً ضروريًا”.
ويتم تجاهل تدمير المستشفيات، الجامعات، والمناطق السكنية، وكأن ذلك مجرد “تعقيدات” في ساحة المعركة.
هذه الانتقائية في التعاطف مع طرف واحد ليست فقط غير أخلاقية، بل هي أيضًا قصر نظر سياسي يحمل رسالة مأساوية: “ليست كل الأرواح متساوية”.
القانون الدولي: قاعدة ثابتة أم أداة انتقائية؟
الخلل الأكبر يكمن في التطبيق الانتقائي للقانون الدولي. فالقانون الدولي – بحكم طبيعته – لا يعرف الاستثناءات.
اتفاقيات لاهاي وجنيف ليست توصيات، بل قواعد ملزمة للجميع دون تحيّز. كبار خبراء الأمم المتحدة يرون في تصرفات إسرائيل مؤشرات واضحة على ارتكاب جرائم حرب.
العقاب الجماعي لما يقارب 2.3 مليون إنسان، نصفهم من الأطفال، محظور صراحةً بموجب المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة.
لكن في الوقت الذي كانت فيه ألمانيا سبّاقة في إدانة انتهاكات القانون الدولي في مناطق أخرى، نراها اليوم تلتزم الصمت، بل تتوارى خلف ذريعة “المصالح الأمنية الإسرائيلية”.
التضامن الحقيقي مع إسرائيل لا يكون في غض الطرف عن الانتهاكات، بل في دعوة واضحة وصريحة إلى احترام القانون.
فأي مسار آخر لا يحمي إسرائيل على المدى البعيد، بل يضر بالأمن والسلام الإقليمي.
التوجه العسكري المحض: سعي نحو الأمن على حساب العدالة
إن أعمق مكامن الخلل في هذه الحرب يكمن في التمسك بمنطق عسكري صرف.
فالتاريخ علمنا أن الأمن لا يتحقق بإبادة الخصم، بل عبر تسوية سياسية عادلة.
حماس، التي لا يمكن فهم مشروعها العدمي من دون إدراك جذوره في الحصار والاحتلال واليأس، لا يمكن تحجيمها إلا بتغيير الظروف التي أفرزتها.
بدلاً من أن تسعى ألمانيا إلى إيجاد حل سياسي حقيقي يُفضي إلى قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، تجد نفسها – ربما دون وعي – داعمة للاحتلال من خلال صفقات الأسلحة التي تساهم، بشكل غير مباشر، في تعميق المأساة.
هذا ليس نفاقًا فحسب، بل انزلاقٌ يدفع المنطقة نحو مزيد من الانفجار والتطرف.
الطريق إلى الخروج: الثبات على المبدأ والشجاعة الأخلاقية
تقف ألمانيا اليوم عند مفترق طرق. يمكنها أن تستمر في النهج القائم، ضاربة عرض الحائط بمبادئها، فتخسر مصداقيتها في العالم العربي والجنوب العالمي.
أو أن تختار الطريق الأصعب، لكنه الأكثر شرفًا: طريق التمسك بالمبادئ، والشجاعة في مواجهة الواقع.
وهذا يعني:
زيادة الضغط على الفاعلين الدوليين لضمان إيصال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة بشكل فوري وغير مشروط، من خلال فتح المعابر، والتنسيق مع إسرائيل ومصر والدول المعنية.
الوضوح في تطبيق القانون الدولي: المطالبة باحترام القانون الإنساني من جميع أطراف النزاع، بلا تمييز.
قيادة سياسية حقيقية: السعي الجاد من أجل وقف إطلاق النار، والعودة إلى مفاوضات حقيقية حول حل الدولتين – لا كأمنية رومانسية، بل كأساس واقعي وضروري لكل السياسات المستقبلية.
هذا نداء من أجل الإنسان، من أجل الحق، ومن أجل سلامٍ عادل.
فالصداقة الحقيقية لا تُقاس بالتأييد الأعمى، بل بالشجاعة في قول الحقيقة.
لقد آن الأوان أن تُثبت ألمانيا التزامها بمبادئها، وأن تدرك أن الصمت عن الانتهاكات ليس علامة قوة، بل تعبير عن ضعف أخلاقي وانحياز مرفوض ضد العدالة.