في مشهد يبدو للوهلة الأولى بسيطا، لكنه يحمل في طياته دلالات عميقة ومريرة، هزت قصة “كلب المحفوظ” أو “المحظوظ” كما سماه البعض من منطقة الحوز بالمغرب مشاعر المغاربة، واجتاحت مواقع التواصل الإجتماعي كعاصفة من السخرية والألم، وأعادت طرح السؤال الكبير: إلى متى يستمر فشل السياسات العمومية في إنقاذ الإنسان في هذا البلد..؟
بدأت القصة بلمسة إنسانية من سيدة أمريكية، التقت خلال جولة سياحية عبر جبال الأطلس بكلب هزيل، يتبعها وزوجها في صمت، وكأنه يبحث عن دفء لم يجده في الأرض التي يعيش فيها، قدما له الطعام واللعب، لكنه لم يشأ المغادرة، وبعفوية الأمومة التي تحترم الحياة، قررت السيدة أن تأخذه معها إلى الولايات المتحدة، وقامت بجميع الإجراءات القانونية اللازمة التي انقضت “كلب المحفوظ” وفتحت له أبوابا ما كانت حتى تفتح أمام شاب مغربي يحلم برغيف خبز وكرامة.
يعيش اليوم “كلب المحفوظ” محفوظ في منزل فخم، يتلقى الرعاية والاهتمام، وقد أصبح حديث العالم الافتراضي في المغرب، لا لأنه كلب فقط، بل لأنه بكل بساطة نجا من واقع لم ينج منه الآلاف من أبناء هذا البلد الذي يحلمون بغد أفضل، هذا ما جعل القصة تنقلب من مشهد عاطفي إلى مرآة ساخرة، وهي ردود أفعال بعض الشباب الذين يحاولون الهجرة إلى دول أجنبية تعليقات مريرة غزت منصات التواصل الإجتماعي: “يا ليتني كنت كلبًا!”، “الكلب محظوظ أكثر منا”، “هو نجا ونحن ننتظر الخلاص”.
تعليقات ليست عبثية، بل هي صرخة مقهورة تعبر عن حجم الألم الإجتماعي، وانسداد الأفق، وفقدان الثقة في مؤسسات يفترض بها أن تحمي الإنسان قبل الحيوان.
ويعتبر رواد مواقع التواصل الإجتماعي أن الرمزية القاسية: هي حين يصبح الكلب مهاجرا ناجحا، والإنسان في وطنه يسعى أن تقدم له إسعافات أولية داخل مستشفى عمومي، لم تكن القصة عن كلب وجد المأوى في حضن أمريكية، بل كانت تجسيدا رمزيا لمفارقة موجعة في بلد يعاني فيه الشباب من التهميش، والبطالة، والتردي المستمر للخدمات الأساسية، يبدو أن كلبا مشردا وجد من يحتضنه ويهتم به أكثر من مؤسسات يفترض بها أن تضمن للمواطن الحد الأدنى من الكرامة.
ما يوجع في هذه الحكاية ليس فقط مصير الكلب، بل تلك المقارنة القاسية التي عقدها بعض الشباب بين مصير الحيوان ومصيرهم قصة “الهجرة الناجحة” لهذا الكلب أصبحت تجسيدا لحلم آلاف المغاربة الذين يرون في مغادرة الوطن الحل الوحيد للعيش بكرامة، وكأن الإنسانية لا تمنح إلا في جواز سفر أجنبي.
وهنا يتبين لنا أن الفشل العميق للسياسات العمومية وراء هذه القصة الطريفة في ظاهرها، تختبئ مأساة أعمق وسياسات عمومية أثبتت فشلها في الإستجابة لحاجيات المواطنين، شباب بلا أفق، تعليم يتدهور، صحة في مهب الريح، غلاء فاحش، ومؤشرات تنموية ترعب المتابعين، كيف يعقل أن تعجز الدولة عن حماية شبابها، في حين تخصص بلدان أخرى رعاية وموارد لحماية الحيوانات؟
ولماذا أصبحت الكرامة الإنسانية سلعة نادرة داخل الوطن، ويجب البحث عنها في الخارج؟
ما معنى أن يتمنى الإنسان أن يكون كلبا، فقط لينجو من واقع قاسٍ لا يرحم؟
وهذه هي المرآة التي لا تكذب “كلب المحفوظ” ليس مجرد قصة على هامش الحياة، بل هو عنوان لمرحلة كاملة من الإحباط الإجتماعي والسياسي، لقد عرى ببراءته هشاشة السياسات المتبعة، وساهم دون أن يدري في توجيه نقد لاذع لمنظومة لم تضع الإنسان في قلب أولوياتها، هذا الكلب، في نظر البعض، لم يكن سوى مرآة عاكسة للواقع المغربي، مرآة لا تجامل ولا تخفي الندوب، لقد كشف بطريقة غير مباشرة أن إنقاذ الإنسان لم يعد أولوية، وأن الكرامة قد أصبحت حلما صعب المنال في وتخيل بعض المسؤولين ببلادنا.
رسالة إلى من يهمهم الأمر، القصة بكل ما فيها من سخرية وألم، تطرح سؤالا أخلاقيا قبل أن يكون سياسيا: إذا كانت دولٌ أخرى تنجح في إنقاذ كلب مشرد، فمتى ستنجح دولتنا في إنقاذ مواطن فقد الأمل؟ أليس الإنسان أولى بالعناية؟
ألا تستحق طاقات الشباب المغربي فرصا حقيقية بدل أن تتحول إلى أمنيات عبثية بالهروب أو الموت أو التحول إلى “كلب المحفوظ”؟
الحكاية ليست مجرد لحظة فيسبوكية عابرة، بل جرس إنذار، وبدل أن يسارع البعض إلى تبرير الفشل، يجب على المسؤولين أن يقرؤوا جيدا ما بين سطور هذه القصة: الكلب لم يكن هو المشكلة.. بل هو الدليل، فهل يتحرك أصحاب القرار قبل أن يصبح الحلم الوحيد لشباب هذا الوطن.. أن يعامل يوما ما، كما عومل “كلب المحفوظ”؟




