الشرق الأوسطمجتمع

قيامة النزوح.. وداع البيت والذكريات في غزّة

‘كل الشبابيك بتزكرني فيك، وأكتر شي بحبو بهالبيت هوّي الشبابيك..!’

الأغنية التي أدمَنَتها ‘ودانك ووداني’ يبدو ستصبح غصّة العمر يا أماني.!

من أسبوع وأماني بصمت تطوي البيت، كانت تطويه زاوية زاوية، غرفة غرفة، دُرج دُرج، وبذات الصمت كنتُ أَتأَمّل ما تَفعل، وأستغرب تماسكها وهي تَجرَح قطعه من روحها وجوارحها!

‘شكلها تعوّدت يا بَلَّدَت من كُتر ما نزحنا!’ بيني وبين حالي هيك حكيت خاصه وأن خبرتنا في مجال النزوح كفيله بمنحنا درجة الامتياز مع مرتبة الشّرف في التشرّد واعتياد القرف!

ظلّت تُدهشني طاقة أماني في ترتيب الطناجر والصواني وتصفيط الأواعي بمزاج عالي كما لو كانت في محل دراي كلين واستخدام لاصق أبيض صغير تكتب على هذه ‘حرامات’ وعلى هذا ‘قابل للكسر’ وهذا ‘قابل للأكل’ وسط حفلة غاب عنها كل المعازيم عدا اللاصق والكراتين!

ظللت مشدوهاً مما يحدث حتى سمعت صرخة خالد ‘بابا إلحق ماما!’ وقتها فقط أدركت أن أماني لم تكن كما تصوَّرت، وأنها لم تكن تُعزّل أصلاً للنزوح، لقد كانت تُعد مراسم تشييع البيت وإقامة عزاء مفتوح!

انهارت أماني، وبدأنا ندرك جميعاً أن كل شيء ينهار حتى طال روح الدّار!

صارحتني وهي تبلع دموعها، بنفع أطلب منك آخر طلب؟ بعد ما تنزِّل الأغراض خلّيني أضل شويّ حابه أمشي في البيت وأشبع منه لآخر مرّة!

ليلة وداع قاسية، للزّمان والمكان، لذاكرة الحارة، وأصوات الجيران، وشظايا هائلة من الذكريات تناثرت على الجدران!

ليلة الوداع نمت على البلاط الذي حَرِصَت أماني على أن يكون أبيض وأسود في المطبخ ‘شطرنج يا كرّوم’، وبيج فاتح للصالون، وستارة السُّفرة سكني، والكنب أبيض عارفه حيموتني بالتنضيف بس بموت عالأبيض، وبنسكِّر الحيطه هادي وبنعمل لكارمن غرفة، يا حبيبي مكتب خالد بيآخد مساحه وغرفتهم صغيرة، والحمام الصغير بنلغيه وبنفتح باب عالمطبخ، وطاولة السُّفرة بتفتح ضلفتين كبار وهيك بتوسعنا كلنا برمضان!

بعد ضجيج صاخب، صمت الآن في المكان، ثمّة رعشه، وعرق غزير، يبدو للأسف نوبة قلبيه مفاجئه، لأوّل مرّة في حياتي أشاهد قلب يتوقف في البِناء.. قلب بيت الدَّرَج لم يتحمَّل خبر الإخلاء، حتى جهاز ضغط أمّي أُصيب هو الآخر بالضّغط، وجهاز الأعصاب انفجر هكذا فجأة دون سابق أعراض!

أمام مكتبة والدي كان المشهد مهيب، فقد شَيَّعَت أُمّهات الكُتب روايات الحرب والسّلام ودروب المنفى وغزّة عبر التاريخ وقصة الحضارة وخروج العرب من التاريخ والقانون الدولي والفلسفة عبر العصور ورأس المال والأحزاب من الألف إلى الباء والموسوعة السياسية والكفاح المُسلّح والبحث عن الدولة الفلسطينية!

الأدوات الكهربائية لم نسمع لها صوت منذ وقت، الغسالة، التلاجه، التلفزيون، المكنسه، خلاط المولينكس، التكييف، السماعات وجهاز الصَّوت كأنّ على رؤوسهم الموت!

اسفنج الكنب قلبه قوي وكبير وتَحَمَّل ويتحمّل الكثير، أعتقد أنه سيعذرنا لأننا لن نتمكن من اصطحابه معنا لضيق مساحة ‘النُّص نقل’ مع أن ‘راقة من قفانا’ تعوّدت عليه كما تعوّد هُوَ على قفانا!

طاولة السُّفرة تنظر إلينا وتَتَنَهَّد، الكراسي هي الأخرى تَتنَهَّد، ستشتاق كل من جلسها من الأقارب والأصدقاء، ستشتاق كل من أحب سينابون أماني، وجاج محشي آنتي أماني، وستيك أمون، ومطبخ ام خالد!

غرفة الأولاد لم أجرؤ دخولها فعلى صغر مساحتها إلّا أنّها كانت دائماً ما تتسع للضّحك واللعب والرّسم، لأوّل مرَّة أرى الفرح حزين، ولأوّل مرّة أسمع ضحكه وهي تبكي، الألعاب كلها حزينه حتى الدبدوب يَبكينا!

الحمّام سيعذرني لأنّي لن آتي على سيرته حفاظاً على سمعة البانيو، لطالما كان يُحب صوتي وأنا أغنّي بلبوصاً، ‘كل اللّي معاك في الصورة غاب وَطَنك والأهل والصُّحاب كم واحد وَدَّع وساب من غير أسباب.. شايف في عينيك نظرة حنين بتحن لمين ولّا مين طول عمرها ماشيه السنين والنّاس رُكّاب!’

التَّخت يَشعر أن هناك شيء غريب يحدث في البيت لكن لا تهتز له خشبه، يبدو أنَّهُ يُكابر مثلي!

كلانا ينظر الى الخزانه ولا يتكلم، والخزانه تلتزم الصمت بينما نقوم بتشليحها قطعة قطعة، لقد أفرغنا محتوياتها بالكامل من الشباحات والبنطلونات والبلايز والجاكيتات والبوكسرات، شَلَحَت الخزانه عاريه وبدأت تَهتَز من البَرد في عزّ الحر، يبدو أنّها أعراض حُمّى النزوح التي ستلازمنا عمرنا القادم، ويبدو أن هذا الوقت هو آخرُ عهدنا بالبيت.. هِيَ إذاً قيامة النّزوح.. أو هُوَ إذاً نزوح الرّوح!

أكرم الصوراني

غزّة-الجحيم

https://anbaaexpress.ma/wx2nm

أكرم الصوراني

كاتب فلسطيني ساخر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى