في الكتاب القيم الذي أصدرته سلسلة عالم المعرفة رقم 262 (الذكاء العاطفي) لمؤلفه (دانيل جولمان) ترجمة (ليلى الجبالي) التي أبدعت في ترجمة أكثر من كتاب يثري العقل العربي قصة معبرة.
وفي هذا الكتاب الذي يولي أهمية لمعرفة الذكاء عند الإنسان، وأن معدل الذكاء الذي كان يعتمد عليه علماء النفس سابقا أصبح لاغيا بعد اكتشاف مكونات الإنسان.
فنحن في الواقع ثلاث طبقات من امتزاج الغريزة مع العواطف ومكونات الوعي. أكاد أقول أن التاريخ يمكن فهمه بالاعتبار الجنسي، ومما أذكر أن السلطان العثماني القانوني كان قد وقع في عشق فتاة اسمها الخوريم أي الضاحكة، ولم يكن سلاطين آل عثمان يتخذون زوجات بعد قصة أسر بيازيد وزوجته بيد تيمور الأعرج في معركة سهل أنقرة عام 1402م بل كانوا يتخذون نساء من ولدت منهن اعتقت وسميت أم ولد أما فابنها قد يصبح سلطانا في المستقبل.
وهذه روكسالينا الخوريم هي من قلبت النظام وأصبحت زوجة للمرة الأولى في تاريخ السلطنة.
هنا نرى أثر الحب والجنس في رسم قدر التاريخ الإنساني. وهنا الذكاء ليس عمليات حسابية وقوة تذكر ومحاكمة بل ثمة جانب عاطفي لايستهان به في توجيه الإنسان بل وعثر على مركزه فيما عرف باللوزة المخية (الاميجدالا) وهي تشريحيا تقع في جانب الفص الصدغي من كل نصف كرة مخية.
وهي مركز العواطف وفي كتاب الذكاء العاطفي سرد جميل للعديد من حالات الانفعال يبدأة بقصة عن سائق حافلة يحيل جو الحافلة إلى مايشبه المرشد السياحي، أو ذلك اللص الذي دخل المنطقة الراقية من شرق نييورك بقصد السرقة ليتورط بقتل سيدتين، أو ذلك الذي تكلم عن فيض العواطف باندلاق الشاي بفرط الصب، أو مقاتل الساموراي مع الراهب البوذي ليشرخ له ماهو الجحيم وما هي الجنان، فقد حدث أن التقيا راهب بوذي مع محارب معتد بنفسه من محاربي الساموراي.
والأخير تقليد ياباني بدأ منذ العصور الوسطى بحيث شكل حقبة مميزة في تاريخ اليابان قبل الانتقال الى الحداثة والمجتمع الصناعي.
تقول الرواية أن محارب الساموراي أراد مناقشة الراهب عن معنى الجحيم والجنة فنظر اليه الراهب باستخفاف فما الذي يقحم مقاتل اعتاد ضرب السيف المحمول على ظهره والمجن الذي يتدرع به الدخول في مواضيع عقلية فلسفية؟
وعلى ذمة الرواية التي أوردها المؤلف في الكتاب فإنه خاطبه بقوله: أنت تافه ومغفل. أنا لن أضيع وقتي مع أمثالك؟ هل كانت كلمات الراهب معنية وقصدها كما نطقها أم كانت كلمات أراد منها الراهب استفزازه ليعلمه الدرس الأخلاقي بعدها لانعرف تماما. شعر الساموراي بالأهانة وغضب بشدة واحتقن وجهه فاستل سيفه وقال له:
سأقتلك لوقاحتك. نظر اليه الراهب وقال: سألت عن الجحيم فهذا هو الجحيم. بهت محارب الساموراي وهو يرى نفسه وقد فقد عقله من الغضب وتقدم لارتكاب جريمة القتل من أجل كلمة. هدأ الساموراي وقد روعته الحقيقة التي أشار إليها الراهب حول موجة الغضب التي سيطرت عليه.
فأعاد سيفه الى غمده المعلق على ظهره وانحنى للراهب شاكراً له هذه الحكمة البالغة وقال أشكرك على هذا التوضيح فقد ذقت مس سقر. قال له الراهب هل ذقت نار الغضب ثم شعرت ببرد السلام فهذه هي الجنة التي دخلتها الآن.
ذهل رجل الساموراي من جديد من الدرس العملي الذي لقنه إياه الراهب. هذه القصة تذكرنا بحديث رسول الله ص عن أثر الغضب وضبط النفس عندما ذكر أن المصارع شديد البأس ليس من يغلب الناس في قلبات المصارعة فيرميهم الى الأرض ولكنه من يضبط نفسه عند الغضب (ليس الشديد بالصرعة بل الشديد من يملك نفسه عند الغضب) وأذكر العالم الرباني جودت سعيد وأشد مالفت نظري فيه أنني لم أره يوماً واحداً قط أو جلسة يتيمة واحدة منفعلاً فقلت في نفسي هذه صفة قيادية.
ويروى عن عمر ر أنه كان ينتخب القواد الحربيين ليس من النمط المتهور المتحمس الشجاع فالحرب يحتاج لها الرجل المتربص الصبور الذي يتحين فرصه ولايورد جنوده موارد الهلاك. كما يروى عنه ر أنه كان يقول الله أني اشتكي اليك من ضعف التقي وفجور القوي ويقصد بهذا جرأة غير التقي وتردد التقي وبكلمة ثالثة كما ذكرها ابن خلدون أن الصفة القيادية هي اجتماع ميزتين القوة والأمانة.
وهاتان الصفتان تكررتا في مواضع كثيرة من القرآن الكريم كما جاء في قصة موسى عندما سقى للفتاتين فلما رجعتا الى أبيهما قالت إحداهما تنصح أباها باستئجاره ثم نطقت بالحكمة إن خير من استأجرت القوي الأمين.
وهذا التكرار لمعاني محددة أسميه (المنطق الداخلي للقرآن) بمعنى أن هناك منهج داخلي يعتمد حقائق مكررة وليس مجرد تكرار لفظي للكلمات وهذه المعاني لاتتفتح الا لقلوب جاهزة للاستقبال.
يعقب صاحب الكتاب: هكذا كانت يقظة الساموراي المفاجئة وأعظم حكمة تعلمناها من سقراط هي (اعرف نفسك) فكلنا يغضب ولكن من المهم أن ينتبه احدنا إلى انه في حالة غضب فهذا يمنح صاحبها كبح النوبة الانفعالية.