بدعوة كريمة من السيد المندوب السامي لقدماء المحاربين وأعضاء جيش التحرير، ورئيس الفدرالية الدولية لقدماء المحاربين، د. مصطفى الكثيري، حضرت وقائع المناظرة الدولية التي احتضنها الفضاء الوطني للذاكرة التاريخية للمقاومة والتحرير، الذي نظمته المندوبية السامية لقدماء المحاربين وأعضاء جيش التحرير بالرباط، بتعاون مع الرابطة الأورو_مغربية لطب المسنين وعلوم الشيخوخة، وذلك خلال يومين دراسيين (25 و26) من الشهر الجاري.
المشاركون من أخصائيين في مجال الطب وعلومه، وكذا أخصائيين في مجال تدبير الصحة وإدارتها. هذا لا يمنع من حضور العلوم الاجتماعية في هذه المناظرة، نظرا لأهميتها في مقاربة تدبير الصحة ودور الثقافة نفسها في مجال تطوير القطاع.
كان د. محمد مريزقة قد ملأ ذلك الفراغ، حيث حقق رغبتي فيما جرى بيننا من حديث مفيد على هامش اللقاء، حول أهمية الأخذ بعين الاعتبار الهابتوس في العلاج، وتمكين العبر_مناهجية من قول كلمتها في هذا المجال، فكانت بالفعل مقاربته في الإطار الذي كنت أتمناه لهذه المناظرة، حيث دافع عن الإثنو_سيكولوجيا، ودور الانثروبولوجيا في العلاج.
سأترك الحديث عن هذه المسألة إلى مناسبة أخرى، لأبدي رأيي في هذه المناظرة العلمية، التي أخذت عنوانا مثيرا: “قدماء المقاومين وقدماء المحاربين: الصحة، الرفاه، وواجب الاعتراف”.
وجب أخذ مفهوم الرفاه هنا بمعناه الذي وضع له بلسان المناظرة التي اعتمدت الفرنسية كلغة في إدارة المداخلات، فالمقصود هو: (le bien être) وليس (la prospérité). لا مشاحة في الاصطلاح ما لم يوحي بأكثر مما يحتمل المعنى.
فالغالب على هذه الشريحة من المسنين، هو الاحتياجات الاجتماعية التي تفرض تدبيرا ومصاحبة وعناية فائقة بحجم الوفاء للذاكرة الوطنية، فيكون الحديث عن الحياة الكريمة هنا أبلغ في التعبير والواقع.
ويثيرني مفهوم الحياة الكريمة والمستقرة في مداها الذي تفرضه المقاربة العبر-مناهجية، أي تحسين وضعية الدازاين، لنتحدث إذن عن: (le bien-être ontologique).
سأترك هذا الأمر هو الآخر لمقام آخر لشدة ما يتطلبه من تنسيق، حيث أتطلع إلى الصحة الانطولوجية، وذلك حين تصبح الفلسفة علاجا بالفعل وليس بالمماحكة، أتطلع إلى ما أسميه: philo-thérapie.
هذا هو بالفعل جوهر مقاربتي في كتابي: فيلو-كورونا، حيث سافرت عبر -مناهجيا في الفلسفة والطب والجغرافيا السياسية والاقتصاد والثقافة، في محاولة لتعزيز البعد الرابع للحداثة.
إن المحارب القديم، والمقاوم القديم هو بجسده الموشوم بآثار الحروب، وبذاكرته اليقظة، هو وثيقة وشهادة حية على مخاض تاريخي، إذ تعين أن لا يعتبر ذلك نافلة معرفية، بل هو رافد أساسي للهوية الوطنية والإنسانية، من حيث أنه حامل لذاكرة متخمة بشموخ التحرر الوطني، وشهيد حي على درب قضية عادلة، وكادح على طريق التحرر الوطني.
فالمقاوم إما أنه قد قضى نحبه فهو شهيد، و إما أن يكون حيا، فهو شاهد على عصره، وتلك مهمته بعد الاستقلال والتحرر وشد عصب الهوية الجماعية، التحدي الأكبر لما بعد الكولونيالية.
كان الصديق أحمد تنان، حاضرا في هذه المناظرة، وهو أحد قدماء المحاربين وعضو جيش التحرير، حاضرا كشاهد حي على ذلك الاشتباك البطولي والوفاء الوطني الذي كان سببا في الانخراط المبكر في صفوف جيش التحرير، وهو أيضا شاهد حي على متطلبات العيش الكريم لقدماء المحاربين فيما بعد الاستقلال.
اعتاد السيد احمد تنان أن يمشي بنياشينه الملفتة للأنظار، في سلوك أعتبره بيداغوجيا بامتياز، يؤكد على أنه ذاكرة تمشي على الأرض، كما يقوم بمهمة الربط بين الأجيال، حتى لا ننسى أن كلفة التحرير كانت عالية جدا، وبأن الذاكرة والهوية هما معا قضية واحدة.
ليست الذاكرة هنا سردا كرونولوجيا لحوادث الماضي التي مضت، فما مضى هو جزء مؤثث لحاضرنا، الذاكرة برغسونيا هي تجربة معاشة وحاضرة، بل حسب بول ريكور تندك التخوم بين الأزمنة، فلا يوجد إلا حاضر الماضي أو حاضر الحاضر أو حاضر المستقبل.
فلا يوجد قدماء المحاربين، بل هناك ذاكرة بها نحيا ونعزز الحاضر، فضلا عن أن مهمة حماية الذاكرة هي امتداد للحرب بكيفية أخرى. هم إذن المحاربون دائما، لنقل المحاربون المؤسسون.
عن أي حنين أتحدث؟!
كنت أتأمل تلك المداخلات على تنوعها، أبحث عن رابط موضوعي، وسرعان ما لمست في ثنايا القول حنينا طبيا إلى الحكمة، إلى منبع الطب وفلسفته.
كانت هناك رغبة في القبض على روح الأشياء وعلى المفاهيم الضرورية لتحقيق التطوير المناسب لتدبير الصحة. وليست الفلسفة في نظري سوى هذه المحاولة الجارية لنحت الضروري من المفاهيم نزولا عند الرغبة والضرورة، ضرورة نحت المفاهيم كما تمليها حاجتنا المعرفية في نظر دولوز، وليس اعتباطا لا طائلة منه في الاصطلاح.
لكنني أعتبر أن الفلسفة هي أيضا محاولة للقبض على روح الأشياء، على ما يتوارى باستمرار. كان المشاركون رغما عنهم يشعرون بهذا الحنين.
فالطب حين يتكلم لا يسعه إلا أن يعانق أمه الشرعية، ألا وهي الفلسفة. لكن الفلسفة هي الأخرى مريضة، وكنت أتمنى لو تحظى هي الأخرى بتدبير صحي، لكي لا تظل فلسفة من دون حكمة.
فلتعد الفلسفة إلى حقيقتها ووظيفتها الحكمية، قبل أن تعود سائر العلوم. ليس الطب وحده من كف أن يكون حكمة، فالفلسفة ضاعت بين الوضعانية المفرطة وميتافيزيقا “نسيان الوجود”.
أن تكون الفلسفة علاجا، هي أن تتصالح مع مهمتها الأولى كحكمة خالدة، ثم نفتح لها طريقا إلى الطب. هذا الطب الذي غرق في باراديغم وضعاني آن له أن يؤوب إلى الحكمة، لأنه غير معني سوى بحقيقة واحدة، هي الصحة.
موضوع هذا التدبير، تدبير الجسد، هو الإنسان. ونحن في ندائنا العبر- مناهجي، وتكريسا لمفهوم تعقيد الواقع، ننظر إلى تدبير الصحة بعملية تعقيدية، تلاحظ الإنسان في شموليته، كما تلاحظ الفجوة التي تحتضن التفاعل المهيب بين النفس والجسد، في الأبعاد التي تشكل مكونا في الوعي، علاجا فينومينولوجيا لا يستبعد ما كان له في هذا التعقيد شأنية.
إن الطبيب كعلاج يقتضي إعادة تأهيل تواصلي، حضور باترياركي يتطلبه وضع المريض حين يذكي فيه الضعف البيولوجي والنفسي الحاجة إلى الأبوية، تصبح مهمة الطبيب مضاعفة، تتناسب مع تعقيد الظاهرة المرضية.
الهابتوس كعلاج
أعتقد أن البروفسور مريزيقة قد وضع اليد على الجرح حين دافع عن الاثنو-سيكولوجيا، لأنني بدوري أتساءل: ماذا لو تمادى هذا الوفاء للباردايم الصحي والاغتراب التقني الأكثر اختزالا للتطوير الطبي، ماذا لو أصبح الطب ضربا من الجهل المركب بالصحة؟
فالفصام النكد بين الطب وعلوم الإنسان، حدث أضاع فرصا كثيرة في مجال تدبير الصحة. تجزيء الكائن إلى قطع غيار منفصلة عن بعضها، ما يدعوا إلى ضرورة النهوض بالعبر-مناهجية في تدبير الصحة.
يتعين في عملية العلاج، على الطبيب أن ينهج أسلوب التقمص، مبدأ المشاركة، لا يملك طبيب من النرويج أن يعالج مريضا من قبيلة آسيوية أو أفريقية، إذا لم يخضع لتكوين انثربولوجي معتبر.
المريض هو أيضا شرط وجزء حيوي في عملية العلاج، متى ما أنصتنا إلى ما وراء أنينه، أي إلى ما ينطوي عليه الأنين من حقائق.
الطبيب هو من يقود عملية تدبير العلاج رفقة المريض، واستنادا إلى معطيات البيئة والثقافة، ثمة حاجة يفرضها الوضع الجيو-صحي، لا يوجد طب الجسد وطب للنفس، هناك ضرورة لتعزيز طب الإنسان، لا زال الطب عاجزا أمام لغز ال”psycho-somatique”، لغز، لأنه غالبا ما يتخذ ذلك ذريعة للهروب.
يسكن المرض في تلك الفجوة التي تشكل خط الصدع بين الجسد البيولوجي والجسد النفسي. في قلب التفاعل بين الأجهزة والأنساق، الفكرة الأثيرة في السيكوسوماتيكية التكاملية عند ج.بنيمين ستورا، حيث كل إنسان هو في نهاية المطاف وحدة سيكوسوماتيكية.
على أنني أرى أن النظرة الواحدية في هذا التفاعل، تحجب عنا الاثار السيكولوجية التي تخلفها بعض الأمراض العضوية، هناك ذهاب واياب بين ال(psy) وبين ال(soma). لنعمل سوية وفي تكامل خلاق من أجل تجاوز القطيعة بين العلوم البحتة والعلوم الاجتماعية، لصالح أطروحة ادغار موران: Humainologie.
نحو حكامة صحية
تناولت المناظرة في حيز مهم منها سؤال الحكامة الصحية(gouvernance sanitaire)، إذ تكمن أهمية الحكامة في إنجاز التدبير الخلاق للجسد، هذا التدبير الذي جعلته الفلسفة صنوا في الشأنية لكل من تدبير النفس وتدبير المدينة. فالعمران البشري يتقوم بكل هذه المستويات من التدبير.
ومع أن للعمل النقابي في قطاع الصحة دورا استراتيجيا في تعزيز المطالب الاجتماعية، لا سيما حين يتعلق الأمر بقدماء المحاربين، فالحاجة إلى الذاكرة الوطنية ومن ثمة الإنسانية، تتطلب صحة الحامل للذاكرة، ومن خلال الوفاء لجسد المحارب القديم يتحقق الوفاء لذاكرة وطن.
إن الجسد بمنظور نيتشه هو أساس في كل تمظهرات الحياة، في اللغة والشعور والعمل، هو مجال لتجلي إرادة القوة.
لا يعفي التدبير الإداري للمطالب والحقوق، من الحق في أنسنة قطاع الصحة بشكل عام. فثمة مشكلة خاصة تتعلق بصحة قدماء المحاربين، وثمة مشكلة عامة تخص القطاع الصحي وسياسته، وهناك مشكلة أعم تتعلق بالصحة كإشكالية، مع طغيان النزعة الوضعانية وتراجع الأنوسة وانهيار القيم، ونزعة التشيؤ، و الليبرالية المتوحشة، وانغلاق الباراديم، وأزمة الدواء والاقتصاد السياسي للدواء، واغتراب السلوك البشري في أنماط الاستهلاك غير الصحي، والتدهور البيئي.
التعقيد يطال حاضر الصحة ومستقبلها، وهو ما يفرض حكامة متعددة الأبعاد تأخذ حالة المريض في كليته. اليوم يتعين أن تحدث ثورة في الطب، وحتى إنجاز مشروع الطبيب العبر-مناهجي، علينا من الناحية الاستعجالية، أن نعتمد العلاج من خلال فريق طبي، ففكرة الطبيب الواحد لم تعد تستجيب لتعقيد الواقع الصحي.
وبالفعل، ففي مثل هذه الحالة، يسافر المريض بين كل الاختصاصات، ولكن بكلفة عالية لا تستجيب للظروف الاجتماعية للمريض، فضلا عن أن هذا السفر يجري بين أخصائين ليس بينهم تواصل، وبالتالي غياب التشخيص الإجماعي.
إن المجتمع اليوم في سياق تحول صحي، والهرم السكاني في سير حثيث نحو اتساع قاعدة شريحة المسنين نظرا للتحسن التدريجي الطاريء في منسوب أمل الحياة.
فهذا المؤشر الأساسي للتنمية يفرض تكلفة للمستقبل، حيث المجتمع لا يمكن أن يستقر وينمو من دون رعاية دقيقة للمسنين.
وهذا ما يضاعف السؤال في وضعية قدماء المحاربين، فالأمر من ناحية هو اجتماعي وإنساني وحقوقي، ومن ناحية أخرى هو وطني مبدئي يتعلق بأولئك الذين يشكلون فرصة، لنا ولأنفسهم، أولئك الذين شكلوا وثيقة حية وناطقة عن ذاكرة أمة عريقة في الجغرافيا والتاريخ.