سياسةمنوعات
أخر الأخبار

عندما قرر كاسترو الوقوف إلى جانب رفاقه.. قصة عملية كارلوتا الكوبية في أنغولا

أسهم التدخل الكوبي في منع سقوط لواندا عام 1975، ومكّن MPLA من ترسيخ سلطتها كحكومة شرعية لأنغولا المستقلة..

شادي منصور 

في خريف عام 1975، كانت أنغولا على وشك التخلص من الاستعمار البرتغالي الذي دام أكثر من أربعة قرون. غير أن فرحة الاستقلال لم تكتمل، إذ اندلع صراع داخلي دموي بين ثلاث حركات تحرر وطني كانت قد قاومت الاستعمار: الحركة الشعبية لتحرير أنغولا (MPLA) ذات التوجه الماركسي، والجبهة الوطنية لتحرير أنغولا (FNLA)، والاتحاد الوطني لاستقلال أنغولا الكامل (UNITA).

وبينما كانت هذه القوى تتنافس على السيطرة على العاصمة لواندا قبيل يوم الاستقلال، تحوّلت البلاد إلى مسرح لتجاذبات الحرب الباردة بين معسكر الاتحاد السوفياتي وحلفائه، من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية وشركائها الإقليميين، وعلى رأسهم نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، من جهة أخرى.

في خضم هذه الفوضى، اتخذ الزعيم الكوبي فيدل كاسترو قرارًا غير مسبوق، أطلق عليه لاحقًا اسم “عملية كارلوتا”، تيمنًا بالمرأة الإفريقية المستعبدة كارلوتا لوكومي، التي قادت تمردًا ضد العبودية في كوبا عام 1843.

تمثّل القرار في إرسال دعم عسكري مباشر إلى رفاقه في الحركة الشعبية لتحرير أنغولا، من دون انتظار موافقة موسكو، التي لم تكن قد حسمت موقفها بعد من التدخل المباشر.

خلفيات القرار الكوبي

بعد “ثورة القرنفل” التي شهدتها البرتغال في 1974، بدأ الانسحاب البرتغالي من أنغولا بشكل متسارع، مخلفًا فراغًا خطيرًا استغلته الفصائل الثلاث المتصارعة.

وعلى الرغم من أن MPLA كانت أكثر تنظيمًا وقربًا من النهج الماركسي، فإنها وُجدت في مواجهة خصوم مدعومين من قوى إقليمية نافذة.

الجبهة الوطنية (FNLA) كانت مدعومة من زائير والولايات المتحدة، في حين تحالفت UNITA مع جنوب أفريقيا، التي أطلقت عملية عسكرية كبيرة تحت اسم “سافانا”، بهدف دخول أنغولا والسيطرة على لواندا قبل حلول موعد الاستقلال في 11 نوفمبر 1975.

إزاء هذا الوضع، رأى كاسترو أن انهيار MPLA سيكون بمثابة ضربة قاسية للثورات التحررية في إفريقيا، ونصرًا مزدوجًا للولايات المتحدة ونظام بريتوريا العنصري.

لذلك، قرر إرسال نحو ثلاثة آلاف جندي وخبير عسكري كوبي إلى أنغولا، في خطوة جريئة لم تُنسّق مسبقًا مع السوفيات، الذين فوجئوا بها. وما بدأ كدعم محدود، تحوّل لاحقًا إلى إحدى أوسع العمليات العسكرية الكوبية خارج البلاد.

بداية عملية كارلوتا

في أوائل نوفمبر 1975، انطلقت أولى الطائرات الكوبية نحو لواندا، حاملةً قوات خاصة ومدرّبين عسكريين، وتبعتها لاحقًا جسور جوية وبحرية لنقل الأسلحة الثقيلة والمدفعية. كان الهدف الأول إيقاف تقدم قوات FNLA المدعومة من جنوب أفريقيا، والتي كانت قد اقتربت من مشارف العاصمة.

وفي العاشر من نوفمبر، اندلعت معركة كيفانغوندو، والتي شكّلت منعطفًا حاسمًا في مسار الأحداث. فقد استطاعت قوات MPLA، بدعم المستشارين والمدفعية الكوبية، إبعاد التهديد عن العاصمة.

وفي اليوم التالي، 11 نوفمبر، أعلن أوغوستينو نيتو استقلال أنغولا وتشكيل الحكومة الجديدة، فيما واصلت القوات الكوبية تعزيز مواقعها الدفاعية في العاصمة. ومع مرور الوقت، ارتفع عدد الجنود الكوبين إلى عشرات الآلاف بحلول عام 1976.

تحدٍ مباشر لواشنطن وبريتوريا

شكل التدخل الكوبي مفاجأة مدوية للولايات المتحدة، التي كانت لا تزال تعاني تبعات انسحابها من فيتنام. فقد تصرّفت كوبا بشكل مستقل وسريع، من دون التنسيق المسبق مع موسكو. وفي المقابل، كانت واشنطن تقدّم الدعم السري لخصوم MPLA عبر وكالة الاستخبارات المركزية، التي موّلت FNLA وزوّدتها بالأسلحة.

أما جنوب أفريقيا، فقد اعتبرت وصول حكومة ماركسية إلى حدودها تهديدًا مباشرًا، فضلًا عن حرصها على حماية مصالحها في ناميبيا، التي كانت تحت احتلالها آنذاك. ومع ذلك، فإن الحضور العسكري الكوبي غير موازين القوى، إذ تراجع الجيش الجنوب – أفريقي تدريجيًا أمام الزخم العسكري القادم من كوبا.

أبعاد أيديولوجية ورسائل رمزية

لم يكن تدخل كوبا مجرد خطوة عسكرية، بل عبّر عن قناعة راسخة لدى كاسترو بأن على بلاده واجبًا أخلاقيًا في دعم حركات التحرر في العالم الثالث. إطلاق اسم “كارلوتا” على العملية كان إشارة واضحة إلى هذا البعد الرمزي، وربط بين النضال الأفريقي داخل كوبا وخارجها.

وعلى الرغم من انضمام الاتحاد السوفياتي لاحقًا إلى الدعم، بقيت المبادرة الكوبية استثنائية من حيث استقلال القرار وسرعة التنفيذ.

من أنغولا إلى فلسطين: دعم عالمي للتحرر

بعدما تمكنت MPLA من تثبيت حكمها، سعت الحكومة الأنغولية الجديدة إلى تعزيز التضامن مع قوى التحرر الأخرى، وفي مقدمتها منظمة التحرير الفلسطينية.

فُتحت مكاتب للمنظمة في لواندا، وجرى تقديم دعم سياسي ومعنوي في المحافل الدولية، انطلاقًا من اعتبار القضية الفلسطينية امتدادًا طبيعيًا لنضالات الشعوب الإفريقية ضد الاستعمار والعنصرية.

وهكذا تشكلت شبكة من الروابط بين حركات تحرر الجنوب العالمي، مبنية على تبادل الدعم والخبرة والشرعية الثوروية.

النتائج والتداعيات

أسهم التدخل الكوبي في منع سقوط لواندا عام 1975، ومكّن MPLA من ترسيخ سلطتها كحكومة شرعية لأنغولا المستقلة. واستمر هذا الدعم طوال أكثر من عقد، وبلغ ذروته خلال معركة كويتو كوانافالي (1987–1988)، حيث واجه التحالف الأنغولي-الكوبي قوات جنوب أفريقيا وUNITA في معركة شرسة لم تُحسم عسكريًا بالكامل، لكنها مهّدت لانطلاق مفاوضات إقليمية.

في عام 1988، تم توقيع “الاتفاق الثلاثي” في نيويورك، برعاية أمريكية وسوفياتية، بين أنغولا وكوبا وجنوب أفريقيا، والذي نص على انسحاب متبادل للقوات وتطبيق خطة الأمم المتحدة لاستقلال ناميبيا.

واكتمل الانسحاب الكوبي عام 1991، بعد مشاركة نحو ثلاثمئة ألف كوبي في مختلف المهام، شملت الجنود والأطباء والمهندسين.

خاتمة

تُعد عملية “كارلوتا” إحدى أكثر العمليات العسكرية تميزًا خلال الحرب الباردة، إذ أثبتت أن دولة صغيرة ككوبا يمكنها أن تؤدي دورًا يفوق حجمها بكثير، وأن تواجه قوى كبرى دفاعًا عن مبادئها.

بالنسبة إلى كاسترو، كانت العملية تجسيدًا لفكر “الأممية الثوروية”، أما بالنسبة إلى أنغولا، فكانت طوق نجاة في لحظة ولادة الدولة.

لقد شكّلت كارلوتا أنموذجًا نادرًا للتضامن الدولي، وإثباتًا على أن التاريخ يُصنع أحيانًا بقرارات جريئة، لا يتخذها إلا من يؤمن بقضيته حتى النهاية.

https://anbaaexpress.ma/nrdpz

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى