في لحظة ما، حين تكثر الطبول في كل الاتجاهات، نفهم أن الصمت لم يعد خيارا بل صار مقدمة للحرب.
العالم اليوم ليس في مقدمات توتر عابرة ولا في اهتزازات دبلوماسية مؤقتة، بل في عملية إعادة صياغة جذرية للوعي الجمعي العالمي ترسم معالمها بالنيران والدماء.
ألمانيا تعلن زيادة ميزانيتها الدفاعية وزيادة عدد الجيش، وكأنها تعلن موت عقدة الحرب العالمية الثانية وعودتها لاعبًا مركزيا مسلحا.. فرنسا بدورها تجرب خطط التعبئة كأنها تستعيد ذاكرة 1914 و1939، وكأن باريس تدرك أن زمن الرخاوة الأوروبية انتهى.
أما بريطانيا فترفع ميزانية دفاعها إلى أكبر مستوى منذ الحرب العالمية الثانية، وهو قرار ليس اقتصاديا بقدر ما هو إقرار بأن لحظة الهيمنة البحرية والمالية قد ولت، وأن الدرع العسكري صار الضامن الوحيد لبقائها في المشهد الدولي.
تركيا، اللاعب المهووس بمكانتها التاريخية، تسابق الزمن في تطوير صناعاتها الدفاعية، في بناء الملاجئ كما لو أنها تدرك أن القادم لن يبقي مكانا للحياد ولا لموقع الوسيط.
الصين، بتوازنها البارد، تكشف عن أحدث أسلحة الرعب النووي، في رسالة صامتة لكنها مدوية للعالم الغربي..”لسنا مجرد مصنعٍ لبضائعكم، نحن مصنع النهاية المحتملة”.
الروس من جانبهم يعلنون بلا مواربة أن صواريخهم تصل إلى جميع عواصم أوروبا خلال دقائق، يضعون الكرة على طاولة الناتو ويقولون: “اقتربوا أكثر، وانظروا ماذا سنفعل”.
وفي المقابل، الأمريكيون يتخلون عن قناع اللغة الناعمة ويعدلون اسم وزارة الدفاع إلى وزارة الحرب، إقرار بأن ما هو مقبل لن يكون دفاعا عن أمن، بل حربا هجومية لإعادة تشكيل العالم.
هذه ليست أحداثا متفرقة، بل حلقات في سلسلة واحدة، خيوطها تمتد جميعا نحو مركز صغير اسمه غزة..
غزة التي ما زالت تحت حرب الإبادة، لكنها ليست مجرد رقعة جغرافية تباد، بل هي المرآة التي انكسرت عليها كل السرديات.. السردية الإسرائيلية سقطت في الوعي الغربي ذاته، وللمرة الأولى منذ 1948 لم يعد الإعلام الغربي قادرا على تمرير الأكاذيب دون أن تواجه بوعي جماهيري متفجر في الشوارع والجامعات.
في علم النفس الاجتماعي، حين تتساقط الأقنعة فجأة، يتولد شعور بالفوضى، والرغبة في إعادة بناء نظام جديد بأي ثمن هكذا يبدو المشهد.. الغرب يعيد تسليح نفسه ليس فقط لمواجهة روسيا أو الصين، بل لمواجهة انهيار شرعية قيمه من الداخل.. أوروبا تخشى ثورات داخلية على وقع الغلاء والحروب بالوكالة، وأمريكا تخشى من لحظة انكسار إمبراطوريتها المالية، فتعود إلى أسلوبها القديم، عسكرة العالم.
لكن الصراع ليس سياسيا فقط، بل حضاري نفسي، العالم منقسم اليوم بين وعيين، وعي قديم يرى الأمن في مزيد من التسلح والردع النووي، ووعي جديد ولد في الشوارع التي تهتف لفلسطين، في طلاب الجامعات الذين تحدوا لوبيات الإعلام والسياسة، في ملايين يشاهدون مشاهد المجازر على هواتفهم دون وسطاء.
هذا الوعي الجديد هو التهديد الأخطر على المنظومة، لأنه يفضح هشاشة التوازنات القائمة، ويكشف أن السلاح مهما تضخم لا يستطيع أن يقهر فكرة.
إنه الزمن ذاته الذي وصفه هوبز بأنه “حرب الجميع ضد الجميع”، لكنه اليوم لا يترجم فقط بصراع دول، بل بصراع سرديات.
الأنظمة تعلن استعدادها للحرب، لكن الشعوب بدأت تكتشف أن الحرب الكبرى قائمة فعلا.. حرب على الوعي.
ولهذا يمكن القول إن غزة هي الجامعة الكبرى التي تدرس الآن للعالم معنى المقاومة، معنى أن تنهض مدينة مدمرة لتفضح حضارة كاملة.
التاريخ يخبرنا أن لحظات التسلح المحموم لا تقود إلا إلى انفجار، قبيل الحرب العالمية الأولى، كانت أوروبا في سباق تسلح مماثل.
وقبيل الثانية، كان العالم يحشد ميزانياته في مصانع السلاح بذات المنطق، الردع يضمن السلام، لكن الردع لم يمنع الانفجار، بل عجله.
واليوم نرى السيناريو نفسه يعاد.. تسلح، خطاب كراهية، انقسام عالمي، ومركز صغير مندمج في قلب كل هذا: غزة.
إن ما يجعل المرحلة أكثر خطورة أن التكنولوجيا نقلت الحرب من ميادين محدودة إلى وعي جماعي عالمي.
الطائرات المسيّرة، الذكاء الاصطناعي، الصواريخ العابرة للقارات، الإعلام الرقمي، كلها جعلت الحدود تتبخر،، حرب أوكرانيا لم تعد حربا أوروبية فقط، بل حربا عالمية بالوكالة. حرب غزة لم تعد حربًا على شعب صغير، بل حربا على الحقيقة ذاتها.
العالم إذن لا يتحضر فقط لكارثة مقبلة على مستوى الحروب التقليدية، بل لكارثة أعمق، انهيار المعنى، وحين ينهار المعنى، يصبح السلاح آخر لغة للتخاطب.
لكن وسط كل هذا الضجيج، يبقى صوت غزة كجمر تحت الرماد، يذكر بأن الفكرة لا تقهر، وأن وعي الشعوب مهما حاصرته الأنظمة، يملك القدرة على إعادة تشكيل المستقبل.
قد يبدو أن العالم يسير نحو صدامات تاريخية هائلة، لكن ربما تكون هذه الصدامات لحظة مخاض أكثر منها لحظة موت.
فكما علمنا التاريخ، ولادة العصور الجديدة لا تتم إلا من رحم الدم والفوضى.
كما قال نيتشه: “يجب أن تحمل في داخلك فوضى لتلد نجمة راقصة.”