آراء
أخر الأخبار

رحلة المعاني.. من الطفولة إلى الشيخوخة

عبدالله فضّول

في كل مرحلة من حياتنا، تنبت فينا ملامح جديدة وتذبل أخرى، وكأننا نعيد تشكيل أنفسنا مع مرور الزمن. من الطفولة التي تفيض بالبراءة، إلى الشباب الذي يشتعل بالاندفاع، ثم إلى النضج الذي يهمس بالفهم.

نحمل في داخلنا معاني تتبدل، لا بفعل السنوات فقط، بل بما نعيشه من لحظات وتجارب. نصغي إلى الشيوخ فنكتشف أن النهاية ليست انطفاءً، بل قد تكون بداية لحكمة لا تُشترى. وهكذا نمضي، لا نعدّ أعمارنا بالأيام، بل بما تركناه من أثر، وما فهمناه من الحياة.

تمر شخصيتنا بتحولات عميقة عبر الزمن. فحين كنا صغارًا، كانت أحلامنا بسيطة، وأمنياتنا لا تتجاوز حدود اللعب والمرح، نضحك بلا سبب وننسى الحزن سريعًا.

نظرتنا للحياة كانت بريئة، نراها من خلال عدسة الأمل، وجسدنا ينسجم مع طاقتنا، يحتمل اندفاعنا ويواكب فضولنا دون شكوى.

ثم يتمرد الجسد على طفولته، ويخرج من شرنقة البراءة ليعانق التغيرات الأولى بشغف وارتباك. ينطلق مع هرمونات لا تهدأ، وتتسع دائرة الإدراك والرغبة، فيتحول إلى ساحة لصراعات بين ما نريده وما نفهمه. هي مرحلة الاكتشاف، لا تستلطف القيود، وتداعبها الأحلام الجامحة، فتتأرجح بين النضج واللهفة، وبين الحذر والاندفاع.

ومع مرور الوقت، ندرك أن الشباب، كما امتلأ بالطموحات، حمل أيضًا اندفاعات غير محسوبة وتوترات لا مبرر لها. فينضج الإنسان، لا لأن الزمن منحه الحكمة، بل لأن التجربة علّمته أن التوازن لا يأتي إلا بعد اختلال.

ويعي أن الحياة ليست سباقًا نحو الإنجاز، بل رحلة نحو الفهم، وأن ما كان مؤلمًا قد يصبح درسًا، وما بدا تافهًا قد يحمل معنى عميقًا لاحقًا.

ولأني لم أصل بعد إلى عتبة الشيخوخة، فإني أجالس الشيوخ باستمرار، وأصغي إليهم، وأفهم منهم أن لها وجهين مختلفين. فالشيخ، بحكم تقاعده، إما أن تستولي عليه مشاعر الفراغ والحنين، فتتحكم فيه الذكريات، ويصير عبدًا للماضي، ينتظر ما لا يُعرف وكأنه في بهو النهاية. أو تستولي عليه معاني الحكمة والرضا، فتراه نشيطًا، غير مثقل بالندم، يمتلئ بطاقات شعورية عالية، يرويها للآخرين، ويزرعها في نفوس من حوله، وكأن العمر عنده ليس عدًّا للسنين، بل تراكمًا للمعاني.

لا يبقى الإنسان كما بدأ، بل يحمل في داخله طبقات من المعاني، بعضها نضج، وبعضها انكسر. كل مرحلة تترك أثرًا، وكل أثر يروي قصة لا تُقال، بل تُحسّ. وقد قال جبران: “ما أنبل القلب الحزين الذي لا يمنعه حزنه من أن ينشد أغنية مع القلوب الفرحة”. فالحياة ليست بما نفقده فيها، بل بما نضيء به دروب الآخرين ونحن نعبرها.

https://anbaaexpress.ma/86yrp

تعليق واحد

  1. تحليل ولأروع لمحطات مهمة من الحياة ودقة متناهية في سرد تفاصيل المراحل العمرية بمعانيها العميقة التي قد يمر بها أي إنسان بين أحضان طفولته، مرورا بمرحلة الشباب ويفاعته و وصولا إلى محطة الشيخوخة حيث يكون قد اكتسب الكثير من الأشياء كالتجارب و التوازن و الحكمة إلخ … وفق الله واصل أخي و أستاذي الفاضل عبدالله فضول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى