بقلم: د. أميرة عبد العزيز
لم يكن الخامس من سبتمبر 2025 يومًا عاديًا في مسار نزاع الصحراء المغربية. ففي بيان رسمي بثته وكالة الأنباء الصحراوية (SPS)، أعلنت جبهة البوليساريو استعدادها لـ”حل سياسي تفاوضي عادل وسلمي”، تحت مظلة الأمم المتحدة، دون أي إشارة إلى مطلبها التقليدي بتنظيم استفتاء لتقرير المصير.
بهذا الإعلان تكون الجبهة قد أسقطت ورقتها التاريخية التي ظلت تلوّح بها لعقود، وأقرّت ضمنيًا بالهزيمة السياسية أمام المغرب، الذي انتصر بالدبلوماسية والشرعية، فيما انكشفت الجزائر كخاسر استراتيجي ومعزول دوليًا.
لقد كان مطلب الاستفتاء بالنسبة للبوليساريو بمثابة “المقدس السياسي” الذي لا يقبل المساومة، وهو الذي بنَت عليه كل دعايتها منذ 1975.
لكن هذا الشعار، الذي ظل يُسوَّق في المخيمات وفي دهاليز الاتحاد الإفريقي وبعض المنابر الدولية، لم يجد له سندًا عمليًا على الأرض.
فمنذ فشل خطة التسوية الأممية لعام 1988 وتعذر تنظيم أي استفتاء قابل للتنفيذ، بات المشروع برمته مجرد ورقة ضغط بيد الجزائر ضد المغرب، أكثر منه خيارًا واقعيًا.
المجتمع الدولي، من جهته، تجاوز هذه الطروحات العقيمة. الولايات المتحدة أعلنت منذ 2020 اعترافها بسيادة المغرب على صحرائه، فرنسا أكدت في 2022 دعمها الجاد والراسخ لمبادرة الحكم الذاتي، إسبانيا وصفت المبادرة المغربية في 2022 بأنها “الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية”، أما المملكة المتحدة فقد انضمت إلى هذا المسار في يونيو 2025 معتبرة الحكم الذاتي الحل الأمثل والوحيد الممكن.
إلى جانب ذلك، أكثر من 30 دولة افتتحت قنصليات في مدينتي العيون والداخلة، في اعتراف عملي وملموس بمغربية الصحراء.
هذه المعطيات مجتمعة جعلت من خطاب الاستفتاء خطابًا ميتًا لا يُصغي إليه أحد.
أما الجزائر، التي سخرت أموال النفط والغاز لدعم مشروع الانفصال، فقد تلقت الضربة الأشد. فعقود من الإنفاق على تسليح وتدريب وإيواء عناصر البوليساريو لم تُسفر سوى عن عزلة متنامية.
الاتحاد الإفريقي نفسه بات يميل إلى الحل السياسي في ظل رفض متزايد لمغامرات الانفصال التي تهدد استقرار القارة.
بل إن العديد من الدول الإفريقية سحبت اعترافها بالجمهورية الوهمية، إدراكًا منها أن هذا الكيان ليس سوى صنيعة مخابراتية جزائرية لا تملك مقومات الدولة.
بيان 5 سبتمبر 2025 جاء خاليًا من أي ذكر للاستفتاء أو للاستقلال أو لخيار الحرب. وهذا الصمت أبلغ من ألف تصريح.
إنه إقرار صريح بأن خطاب المواجهة انتهى، وأن “الجبهة” لم تعد تملك سوى خيار الالتحاق بقطار التفاوض ضمن الإطار الأممي، وهو القطار الذي يقوده المغرب منذ طرحه مبادرة الحكم الذاتي سنة 2007.
هذه المبادرة، التي وُصفت في قرارات مجلس الأمن المتعاقبة بأنها “جادة وذات مصداقية”، أثبتت صلابتها واستمرارها، فيما سقطت كل الأطروحات الأخرى.
الهزيمة هنا مزدوجة: فالبوليساريو خسرت شرعية خطابها، والجزائر خسرت موقعها الإقليمي بعدما انكشف دورها كراعية لمشروع انفصالي فاشل.
بل يمكن القول إن النظام الجزائري، الذي جعل من قضية الصحراء “عقيدة رسمية”، هو الخاسر الأكبر، لأنه ربط شرعيته الداخلية بمعركة خاسرة ضد المغرب.
والنتيجة اليوم واضحة: المغرب يراكم الاعترافات والانتصارات، والجزائر تغرق في مأزق العزلة والتناقض.
إن إسقاط ورقة الاستفتاء يوازي، من الناحية السياسية، استسلامًا غير معلن. فالجبهة التي كانت ترفع شعار “الاستقلال أو الموت” وجدت نفسها مضطرة للقبول بالحل السياسي الواقعي الذي يطرحه المغرب.
وهذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل هو ثمرة استراتيجية مغربية متكاملة جمعت بين التنمية في الأقاليم الجنوبية (مشاريع البنية التحتية، الموانئ، الطاقات المتجددة، ربط الداخلة بأفريقيا جنوب الصحراء) وبين الحضور الدبلوماسي الفاعل في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
إننا أمام لحظة تاريخية بكل المقاييس. فقد سقط مشروع الانفصال في لحظة الحقيقة، وانهارت أسطورة الاستفتاء التي عاشت عليها البوليساريو أربعة عقود.
المغرب خرج منتصرًا لأنه تمسك بالشرعية والواقعية، بينما الجزائر خرجت خاسرة لأنها استثمرت في وهمٍ لم يكن يومًا قابلًا للحياة.
اليوم، يتأكد بما لا يدع مجالًا للشك أن الصحراء مغربية، وأن مبادرة الحكم الذاتي هي الأفق الوحيد، وأن العالم لم يعد يملك صبرًا على مغامرات الجزائر وجبهتها الوهمية.
إن التاريخ سيسجل أن يوم 5 سبتمبر 2025 كان بداية النهاية للبوليساريو، وأنه اليوم الذي انتصر فيه المغرب سياسيًا ودبلوماسيًا على خصومه.
لقد انهار مشروع الانفصال، وتخلى أصحابه عن آخر أوراقهم، فيما بقي المغرب ثابتًا راسخًا في موقع القوة والسيادة. والجزائر، التي أنفقت ملياراتها على وهم، وجدت نفسها في عزلة تاريخية لا مخرج منها.