منذ ستينيات القرن الماضي، كان هناك خيط رمزي يربط الرباط وبكين، لكنه اليوم أصبح أكثر من مجرد روابط دبلوماسية، إذ تحولت الصين إلى ثالث أكبر مستثمر في المغرب، حسب ماجاء في تقرير دولي، فيما يسعى وزير الخارجية ناصر بوريطة من قلب بكين إلى ترسيخ معادلة جديدة تقوم على المال والمبادئ المشتركة، وعلى رأسها رفض الانفصال واحترام السيادة الوطنية ووحدة الأراضي، وهي مفردات تستبطن ملف الصحراء المغربية، بالنسبة للمغرب وقضية تايوان وهونغ كونغ بالنسبة للصين..
اللقاء الأخير بين بوريطة ونظيره الصيني وانغ يي دشّن حواراً استراتيجياً يهدف إلى إعادة صياغة معاهدة الاستثمار الموقعة سنة 1995، وتوسيع رقعة التعاون بما يتجاوز الجانب الاقتصادي ليشمل البعد السياسي والرمزي.
ووفق ذات التقرير، التوقيت لم يكن عابراً، فقد جاء بعد عودة الرئيس شي جين بينغ من قمة بريكس في البرازيل، ليكون المغرب المحطة الإفريقية الوحيدة التي تحظى بهذا الاهتمام، فيما أوكلت مهمة الاستقبال لولي العهد الأمير مولاي الحسن، في إشارة واضحة إلى أن المؤسسة الملكية تضع الملف الصيني ضمن أولوياتها الاستراتيجية وترسّخ في وعي وريث العرش أن الصين ستكون رقماً ثابتاً في معادلات المستقبل.
منذ استقلال المغرب، كان هناك وعي مبكر بضرورة الانفتاح على بكين، فالمغرب كان ثاني بلد عربي وإفريقي يعترف بجمهورية الصين الشعبية سنة 1958 بعد مصر الناصرية، وفي الأمم المتحدة عام 1960 لم يتردد ولي العهد آنذاك الحسن الثاني في الدعوة إلى تمثيل الصين، رغم حساسية الموقف بالنسبة لحلفائه الغربيين، وهو ما ترك أثراً عميقاً في الذاكرة الصينية لم يُمحَ حتى اليوم.
ومنذ زيارة الملك محمد السادس إلى بكين عام 2016 مروراً بإلغاء التأشيرات أمام السياح الصينيين وصولاً إلى محطة الدار البيضاء التي توقف فيها شي سنة 2024، تواصلت حلقات بناء الثقة لتشكل أرضية صلبة لشراكة متنامية.
اليوم لا يقتصر الأمر على البروتوكول الدبلوماسي، بل يتجسد في مشاريع اقتصادية ضخمة تعكس انتقال العلاقة إلى مستوى آخر، إذ أُعلن عن استثمارات بمليارات الدولارات: مصنع للألمنيوم الأخضر بقيمة 3 مليارات دولار، شراكة في مجال بطاريات الليثيوم بين مجموعة “سي إن جي آر” الصينية وصندوق “المدى” المغربي بملياري دولار في الجرف الأصفر، إضافة إلى مشاريع للقطارات فائقة السرعة، ومصنع ضخم تابع لشركة “غوشن هاي تيك” في القنيطرة بميزانية تناهز 5.6 مليارات دولار لإنتاج أول وأكبر مصنع للبطاريات الكهربائية في إفريقيا بطاقة 20 غيغاواط/ساعة عام 2026 مع خطط للتوسع لاحقاً إلى 100 غيغاواط/ساعة.
وفي غضون عقد واحد فقط صعدت الصين من المرتبة الثالثة عشرة إلى الثالثة في قائمة المستثمرين بالمغرب، بحجم تبادل تجاري يقارب 10 مليارات دولار سنوياً.
ويبرز الفارق حسب ذات التقرير.. بين التجربتين المغاربيتين، ففي الجزائر تركز الصين على البنية التحتية والطرقات، بينما في المغرب تضع أموالها في الصناعات المستقبلية كالسيارات والهيدروجين والتكنولوجيا الرقمية والطاقة المتجددة، وهو ما ينسجم مع الخيارات الاستراتيجية للرباط التي تراهن على موقعها كبوابة نحو أوروبا وإفريقيا وأميركا، وتقدّم استقرارها السياسي كممر آمن لمشاريع “الحزام والطريق” الصينية.
هذا التحالف لا يقتصر على الاقتصاد، بل يجد جذوره في الرؤية المشتركة لمفهوم السيادة، فكما أن قضية الصحراء المغربية تُعد مسألة وجودية للرباط، فإن الصين ترى في وحدة أراضيها واستعادتها لتايوان وهونغ كونغ وماكاو جوهر كيانها السياسي، وهو ما يخلق تفاهماً تلقائياً بين الطرفين.
على صعيد الفوسفات، ورغم أن الصين المنتج الأول عالمياً، إلا أن احتياطاتها مهددة بالنفاد في غضون أربعة عقود، فيما يحتفظ المغرب بأكبر مخزون عالمي، ما يجعل التقاطع في الأمن الغذائي بعداً استراتيجياً إضافياً في المعادلة الثنائية.
لكن يبقى ملف الصحراء هو المحور المركزي الذي جاء بوريطة من أجله، فرغم الشراكات الاقتصادية والاستثمارات، تظل بكين حذرة في مقاربتها، إذ حافظت على ما يسمى “الحياد الاستراتيجي” متجنبة الاصطفاف العلني إلى جانب أي طرف، لكنها في السنوات الأخيرة بدأت تستخدم مصطلحات من قبيل “حل واقعي ومعقول”، وهي عبارات تتطابق مع مقترح الحكم الذاتي المغربي، كما أن الصين لم تستضف “الجمهورية الصحراوية” في قممها الإفريقية، وساندت قرار مجلس الأمن 2602 سنة 2021 الذي يدعو إلى حل سياسي متوافق عليه.
مع ذلك لا تقدم بكين وعوداً واضحة، فهي توازن بين علاقاتها مع الجزائر وحرصها على توسيع نفوذها الاقتصادي في منطقة الساحل والأطلسي. أقصى ما يمكن التعويل عليه في المرحلة الراهنة هو “حياد نشط”، أي عدم استخدام الفيتو ضد المقترحات المغربية وربما الميل إلى التصويت الإيجابي حين يحين الوقت.
في النهاية، يظل الأساس في هذه العلاقة هو أن الصين تفكر بعقل استراتيجي طويل الأمد يقاس بالعقود لا بالسنوات، والمغرب من جهته يقدم نفسه كدولة مستقرة ذات مشروع ذاتي في قضية الصحراء، قادرة على أن تشكل منصة اقتصادية ودبلوماسية محورية في شمال إفريقيا.
ومع تراجع العلاقات المغربية الفرنسية منذ 2019، واحتياج الرباط لتنويع تحالفاتها في عالم يتجه إلى التعددية القطبية، تبدو بكين خياراً مثالياً يمنح المغرب هامش مناورة أوسع دون التخلي عن شراكاته التقليدية مع الولايات المتحدة وأوروبا.
الرهان إذن يتجاوز الاستثمارات والمصانع ليصل إلى التاريخ والذاكرة والسيادة، حيث يجد المغرب والصين في بعضهما البعض مرآة لقضية وجودية مشتركة، ومعادلة استراتيجية تُبنى على التوازي بين المصالح الاقتصادية والرمزية السياسية في زمن تتغير فيه موازين القوى بسرعة غير مسبوقة.