في مساء من أمسيات الدار البيضاء، وبين مقهى يضج بالوجوه العابرة والأحاديث المتناثرة، جلست مع بعض الأصدقاء، وكان بينهم صديق فلسطيني حمل معه ذاكرة المنفى وصوت المخيم، وألقى بسؤاله البسيط المركب في آن.. لماذا المغرب لا يستثمر في الدراما التاريخية؟ المغرب الذي هو دولة أمة، والمغرب الذي كان عبر التاريخ قوة تمددت في الأندلس والصحراء، وشهدت له العمارة واللباس والموسيقى، المغرب الذي ترك بصمته على حوائط قرطبة وإشبيلية، وعلى نوافذ غرناطة ونقوش الزليج في قصور الحمراء، المغرب الذي كان مملكة عابرة للعدوتين، شمالاً وجنوبا بحرا وصحراء، كيف له ألا يحول هذا التاريخ إلى دراما تمثل قوة ناعمة، وتعيد صياغة الحاضر بمعنى مختلف؟
أجبته، وأنا أتأمل في وجهه الموشوم بالحزن الفلسطيني القديم، أن الأمر ليس نقصاً في التاريخ ولا فقراً في الرموز ولا ندرة في البطولات، بل هو غياب الإرادة العليا في القطاع الوصي الذي اختار أن يوجه الدعم نحو أعمال استهلاكية، تافهة في مضمونها، تنتج وتسَوق وكأنها وجبات سريعة، تغذي اللحظة لكنها لا تترك أثراً في الذاكرة الجمعية..
هنا تكمن المأساة، أن يتحول الفن إلى سلعة، والدراما إلى آلية للهروب من أسئلة الوعي، بدل أن تكون فعلاً لبناء الذاكرة واستعادة المكانة.
تذكرت حينها حاتم علي، المخرج السوري الراحل، الذي استطاع أن ينقل الدراما التاريخية إلى مستوى آخر، ليس فقط لأنه كان مخرجاً متقنا لصناعة الصورة، بل لأنه فهم أن التاريخ ليس ماضياً ساكناً، بل أداة لتفسير الحاضر وصياغة المستقبل..
بعد رحيله بدت الدراما العربية يتيمة، فقدت بوصلتها، وسقطت في يد منتجين يبحثون عن الربح السريع، لا عن صناعة المعنى.
الدراما التاريخية، في لحظة ما، كانت قادرة على أن توحد الوجدان العربي، أن تفتح حوارا بين مشاهد في المغرب وآخر في اليمن وثالث في فلسطين، حول قيم الحرية والعدل والبطولة، لكن غياب حاتم علي كشف عورة البنية الدرامية العربية التي لم تستطع أن تنتج خلفاً يعيد للذاكرة قوتها.
المغرب ليس فقيرا في التاريخ حتى يعفى من مسؤولية إنتاج الدراما التاريخية، بل ربما هو الأغنى.
تاريخ الدول المتعاقبة من المرابطين والموحدين والسعديين والعلويين، تاريخ المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي والإسباني، تاريخ العبور نحو الأندلس ثم الانفتاح على إفريقيا جنوب الصحراء، تاريخ العلماء والمتصوفة والفلاسفة الذين جعلوا من المغرب بوابة للروح والفكر.
هذا التاريخ وحده كفيل بأن يكون مادة لعشرات الأعمال الدرامية التي لا تنافس فقط الأعمال العربية، بل يمكن أن تصدر إلى العالم باعتبارها صناعة ثقافية ذات بعد كوني.
لكن ماذا نفعل أمام إرادة سياسية وثقافية لم تدرك بعد أن القوة الناعمة هي السلاح الجديد في زمن التحولات الجيوسياسية؟
حين نتأمل في المشهد العربي الراهن، من حرب غزة المستمرة منذ السابع من أكتوبر، إلى إعادة الاصطفافات الدولية بين محور أمريكي غربي ومحور صيني روسي إيراني، ندرك أن الثقافة ليست ترفا بل هي ساحة حرب موازية.
إسرائيل، على سبيل المثال، تدرك تماماً أهمية القوة الناعمة، وتستثمر في السينما والدراما لتلميع صورتها وتزييف وعي العالم.
تركيا بدورها بنت إمبراطوريتها الناعمة عبر مسلسلات تاريخية مثل “قيامة أرطغرل” و”المؤسس عثمان”، التي تحولت إلى أداة لتصدير صورة القوة العثمانية الجديدة، وجعلت ملايين العرب والمسلمين يعيدون اكتشاف التاريخ العثماني من خلال الشاشة.
فما الذي يمنع المغرب من أن يسلك هذا الطريق، وهو الذي يملك تاريخاً أعقد وأغنى وأعمق؟
إن غياب الدراما التاريخية المغربية يعكس خللا سيكولوجياً في علاقتنا مع ذاكرتنا. نحن نخشى أن نواجه تاريخنا، نتركه رهينة كتب المؤرخين أو صفحات المقررات الدراسية الجافة، بدل أن نجعل منه مادة حية تقتحم البيوت وتخاطب الوعي الشعبي.
التاريخ بالنسبة إلينا ليس ذاكرة مشتركة، بل عبء يذكرنا بانكساراتنا أكثر مما يوقظ فينا انتصاراتنا. لذلك نفضل الاستسلام لأعمال استهلاكية تنشر السخرية والابتذال بدل أن تزرع الفخر والانتماء.
صديقي الفلسطيني كان محقا في سؤاله، لأن فلسطين نفسها أصبحت ساحة للدراما الواقعية اليومية، فكل يوم في غزة منذ “طوفان الأقصى” هو مشهد تاريخي، لكنه بلا مخرج ولا شاشة، بل دم حقيقي يراق أمام صمت العالم.
الدراما هنا ليست ترفا فنيا بل وسيلة للبقاء في الذاكرة، لئلا يتحول الدم الفلسطيني إلى مجرد رقم في نشرات الأخبار.
المغرب بدوره معني بهذا البعد، لأن الاستثمار في الدراما التاريخية ليس مجرد ترف ثقافي، بل دفاع عن الذات في مواجهة عالم يسعى إلى محو الهويات الصغيرة لصالح روايات كبرى يكتبها الأقوياء.
حين أسترجع تاريخ المغرب في الأندلس، لا أرى فقط قصوراً وحدائق، بل أرى مشروعا حضاريا كان قادراً على أن يجعل من المغرب مركز إشعاع للعالم الإسلامي، وكيف أن هذا المشروع اندثر بفعل الخيانات والتحالفات الأوروبية الداخلية.
استعادة هذا التاريخ دراميا هو استعادة لوعي مفاده أن القوة لا تبقى إلا إذا امتلكت شعوبها ذاكرة حية. نحن في زمن تتحكم فيه الصور أكثر مما تتحكم فيه الجيوش، وتبني فيه السرديات أكثر مما تبنى فيه الأسوار.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه.. لماذا يصر القطاع الوصي على دعم التفاهة بدل التاريخ؟ الجواب يكمن في أن التفاهة أسهل، أرخص، وأكثر قدرة على السيطرة على وعي شعبي هش.
الدراما التاريخية تحتاج إلى تمويل ضخم، إلى كتاب ومخرجين وممثلين متمكنين، وإلى جرأة في مواجهة الأسئلة الكبرى.
بينما الأعمال الاستهلاكية لا تحتاج سوى إلى وجوه شابة وموضوعات سطحية تضمن نسب مشاهدة مؤقتة.
هنا يتجلى البعد السياسي، لأن صناعة التفاهة هي سياسة بحد ذاتها، سياسة تهدف إلى إبقاء الشعوب في دائرة الاستهلاك لا الإنتاج، في حالة غيبوبة لا يقظة.
إنني أعتقد أن غياب الإرادة ليس قدرا، بل نتيجة لصراع داخلي حول معنى الثقافة في المغرب. هل هي مجرد وسيلة للترفيه؟ أم هي أداة لبناء الهوية الوطنية في زمن العولمة؟ إذا كان الخيار الأول هو السائد، فسنبقى نستهلك دراما الآخرين وننظر إلى تاريخنا كما لو كان أثراً متحفياً.
أما إذا اخترنا الخيار الثاني، فإن المغرب قادر أن يصبح قوة ناعمة تضاهي القوى الإقليمية الأخرى، عبر تصدير أعمال درامية تحكي للعالم قصتنا بلغتنا ورمزيتنا وتاريخنا.
في النهاية، ونحن نغادر المقهى في الدار البيضاء، قال صديقي الفلسطيني..”أنتم المغاربة لو أدركتم قيمة تاريخكم لصنعتم من كل مدينة مسلسلاً ومن كل شخصية ملحمة“. ابتسمت، وأنا أعلم أن كلامه صحيح، لكنني أدرك أيضاً أن الطريق ما زال طويلا أمام وعي رسمي وشعبي يفهم أن التاريخ ليس فقط ما مضى، بل هو ما نصنعه من صور وروايات في حاضرنا ، وما نقدمه للعالم كحكاية تستحق أن تروى.
شكرا جزيلا أستاذ عبدالحي على هذه الإضاءة العميقة ابن مدينة تطوان البار، فلم أجد مقالا يشرح واقع الدراما في بلادنا كما شرحته، في زمن طغت فيه الرداءة والتفاهة بوركت وبورك قلمك النبيل، فأنت كما عهدتك دائما صوت حر وأخلاقي وطاقة شابة تستحق أن يكون مكانها في قناة أو جريدة دولية ما دام مناخ الإعلام عندنا لا يشجع الا اصحاب التفاهة والصحافة الصفراء.