آراءثقافة
أخر الأخبار

المثقف الطيب في عالم المراوغة

لقد وقع بعض المثقفين في فخ وكالات تقدم قروضًا بشروط مغرية، لكنها تحمل في طياتها استغلالًا غير مباشر

عبدالله فضول 

رغم عمقهم الفكري وقدرتهم التحليلية، يقع كثير من المثقفين في سذاجة غير متوقعة عند التعامل مع الواقع. فهم يُخدعون بسهولة، ويمنحون الثقة دون حساب، وكأن الفكر المجرد لا يكفي لحمايتهم من فخاخ الحياة اليومية.

هذه المفارقة تطرح تساؤلات حول العلاقة الملتبسة بين الذكاء النظري والوعي العملي، بين التحليل المجرد ومهارات العيش في مجتمع مليء بالتعقيدات.

هؤلاء المثقفون لا يفتقرون إلى الذكاء، ولا تنقصهم القدرة على التفكيك والتحليل، لكنهم غالبًا لا يمتلكون الحذر الاجتماعي الكافي، ولا يضعون في اعتبارهم أن النية الطيبة وحدها لا تكفي في عالم تحكمه المراوغة.

ومن هنا، وأنا أتأمل الجسم الثقافي، ومن خلال ما أسمع من تجارب ومواقف متكررة، ألاحظ أن كثيرًا منهم يسهل النصب عليهم. بعضهم وقع ضحية لخطابات براقة أو وعود زائفة، رغم امتلاكهم أدوات الفهم وإنتاجاتهم العقلية الرفيعة.

هذه المفارقة تكشف هشاشة العلاقة بين الفكر والواقع، وتُظهر أن الذكاء النظري لا يمنح حصانة من الخداع.

لقد وقع بعض المثقفين في فخ وكالات تقدم قروضًا بشروط مغرية، لكنها تحمل في طياتها استغلالًا غير مباشر.

آخرون خُدعوا من قبل أصدقاء استغلوا ثقتهم، أو جيران أظهروا الودّ وأخفوا النية، أو من خلال معاملات تجارية واجتماعية لم يُحسنوا تقدير أبعادها.

هؤلاء المثقفون لا يتعاملون مع الواقع كمنطقة رمادية، بل يقرؤونه من خلال عدسة مثالية، ويغفلون عن أن النوايا لا تُترجم دائمًا إلى أفعال نزيهة.

ربما يعود ذلك إلى فطرتهم النقية، وعفويتهم التي تجعلهم يتعاملون مع الآخرين بقلوب مفتوحة، أو إلى الآمال الجميلة التي يحلمون بها في عالم أكثر عدالة وإنصافًا.

وقد يكون السبب انشغالهم بالمعاني الكبرى، وانصرافهم عن التفاصيل الصغيرة التي تحمل في طياتها الخداع، أو لأنهم لم يعتادوا على الحذر في العلاقات اليومية.

فهم يفترضون حسن النية، ويمنحون الثقة دون حساب، كما أنهم لا يتقنون فنون المراوغة أو الحذر الاجتماعي، لأنهم ببساطة لا يرون العالم من زاوية الشك، بل من نافذة الأمل.

والنتيجة في الغالب تكون صدمة، أو خيبة أمل عميقة، أو شعورًا بالخذلان من أقرب الناس. وقد ينعكس ذلك في انطواء المثقف على ذاته، أو فقدانه الثقة في محيطه الاجتماعي، أو حتى في تراجع حماسه تجاه العمل الثقافي نفسه.

فبدلًا من أن يكون العقل ملاذًا آمنًا، يصبح أحيانًا عبئًا حين لا يُترجم إلى وعي عملي يحمي صاحبه من الوقوع في الفخاخ المتكررة.

إن الخداع، بكل أشكاله، يختبئ في مزالق الواقع، ويترك خلفه خيبات تتسلل إلى قلب المثقف دون استئذان. وأمام طيبوبته، وحسّه الإنساني العالي، ونزعته الفطرية نحو الثقة والتسامح، تتشكل تصدعات في جدار العلاقة بين الفكر والواقع.

هؤلاء المثقفون لا يملكون أدوات الحذر التي توازي أدوات التحليل، ولا يضعون في اعتبارهم أن الطيبة وحدها لا تحمي من الخذلان. وهذا لا يعني أبدًا أنهم ضعفاء أو سذج بالمعنى البسيط، بل إنهم يعيشون في عالم من التوقعات النبيلة، يصطدم أحيانًا بواقع لا يشبه تلك الأحلام التي بناها في ذهنه، ولا تلك القيم التي آمن بها طوال حياته.

فالمطلوب إذًا أن يعيد المثقف النظر في علاقته بالواقع، وأن يوازن بين طيبوبته الفطرية وحسه الإنساني، وبين الحذر الواجب في التعاملات اليومية. عليه أن يدرك أن الذكاء النظري وحده لا يكفي، وأن الوعي العملي أصبح ضرورة لا رفاهية.

ويعي أن الآن، في ظل تعقيدات الحياة وتداخل المصالح، لا بد من يقظة داخلية تحميه من الانزلاق في فخاخ الخداع.

فهو يملك أدوات التحليل، ويمتلك القدرة على قراءة ما وراء الكلمات، كما أنه قادر على أن يطوّر حسًا نقديًا لا يقتل الأمل، بل يحميه من الانكسار.

 * كاتب وقاص للقصة القصيرة جدا

https://anbaaexpress.ma/ov0ny

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى