في إطار المتابعة الدقيقة والمتواصلة لـ”أنباء إكسبريس” للوضع في الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية، واستنادًا إلى سلسلة مقالات سابقة رصدت مكامن الخلل والاختلالات التنموية في هذه الجهات.
نعود اليوم إلى ملف مدينة الداخلة، التي تُعتبر جوهرة الصحراء المغربية وواجهة المملكة نحو إفريقيا وأوروبا، لكنها في الوقت نفسه تكشف بوضوح حجم العجز في التسيير المحلي وضعف انخراط النخب في تنزيل الأوراش الملكية الكبرى.
ففي الوقت الذي يحقق فيه المغرب بقيادة جلالة الملك محمد السادس إنجازات كبرى على المستويين الإقليمي والدولي، ويستعد لاحتضان تظاهرات عالمية ضخمة مثل كأس إفريقيا 2025 وكأس العالم 2030، ما تزال بعض المدن المغربية تعاني من سوء التسيير المحلي وضعف تدبير الشأن العام، في تناقض صارخ مع الدينامية الملكية.
وتُعد مدينة الداخلة، قبلة السياحة العالمية وجوهرة الصحراء المغربية، المثال الأبرز لهذا العجز.
فرغم موقعها الاستراتيجي، وجمالها الأخّاذ، والإقبال المتزايد عليها من مختلف القارات، فإن واقعها يكشف عن ضعف في البنية التحتية، نقص في المرافق والخدمات، غياب رؤية تنموية واضحة، وتراجع جاذبيتها السياحية مقارنة بالسنوات الماضية.
الداخلة تنعم بأوراش ملكية كبرى رغم عجز المنتخبين في مواكبتها
تعيش مدينة الداخلة على وقع مشاريع ملكية كبرى تعكس الرؤية الاستراتيجية لجلالة الملك محمد السادس، حيث يجري إنجاز ميناء الداخلة الأطلسي باستثمار يفوق 12 مليار درهم، إلى جانب مشروع ضخم لتحلية مياه البحر بقيمة تناهز 2 مليار درهم، وبرامج لتقوية شبكات الماء والتطهير لفائدة أزيد من 100 ألف نسمة.
كما تشهد الجهة مشروع الطريق السريعة تيزنيت–الداخلة على طول يفوق 1,000 كيلومتر، وإعادة تهيئة شارع الولاء بميزانية تناهز 280 مليون درهم، فضلاً عن مشاريع الطاقة المتجددة وبرامج التحول نحو مدينة ذكية.
ورغم هذا الزخم التنموي غير المسبوق، يظل عجز المنتخبين عن مواكبة هذه الدينامية الملكية أحد أبرز التحديات المطروحة، إذ لم ينجحوا في تحويل هذه الاستثمارات الكبرى إلى تنمية يومية ملموسة في حياة المواطنين.
هذا الوضع سبق أن تناولته أنباء إكسبريس في مقال أثار تفاعلًا غير مسبوق تحت عنوان: “الفساد ينخر الداخلة.. أبناء المنطقة ينددون وهروب المستثمرين من إقليم وادي الذهب“، حيث عبّر شباب المدينة عن غضبهم ورفعوا شعارات قوية في وجه المشرفين على تدبير الشأن المحلي، من قبيل: “أين ثروات البلاد؟”، “الداخلة مسيطر عليها الفساد”، و”كلاو البحر والبر”، في إشارة صريحة إلى نهب الثروات البحرية والبرية.
كما طالبت منظمات حقوقية المجلس الأعلى للحسابات بالتحقيق في المبالغ الضخمة التي رُصدت للجهة ولمدينة الداخلة خاصة، والتي تُقدّر بمئات الملايير، دون أن يلمس المواطن أي أثر إيجابي لها في حياته اليومية.
وقد أثارت هذه الاعتمادات المالية الضخمة جدلًا واسعًا وضجة كبرى في الرأي العام المحلي والوطني، وزادت من استغراب السياح وكل من يزور المدينة أمام هشاشة البنيات التحتية ومحدودية الخدمات.
ووفق معطيات خاصة، فقد أدى هذا الوضع إلى هروب عدد من المستثمرين نحو نواذيبو الموريتانية أو جزر الكناري، بدل ضخ أموالهم في الداخلة، رغم المؤهلات الاقتصادية والطبيعية الهائلة التي تزخر بها.
كما يواجه شباب المنطقة معدل بطالة مرتفعًا، دفع بعضهم إلى خيار الهجرة، في وقت يعيش فيه قطاع حيوي مثل الصيد البحري مشاكل عميقة مرتبطة بالاستغلال غير العادل للثروات.
جلالة الملك محمد السادس كان واضحًا في خطبه الأخيرة حين أكد أن النخب المنتخبة مطالَبة بالانخراط الجاد في الأوراش الوطنية الكبرى، وعلى رأسها السياحة باعتبارها واجهة المملكة.
غير أن ما نراه اليوم هو تغليب المصالح الشخصية للمنتخبين على المصلحة العامة، واستمرار التسيير العشوائي الذي يحرم الداخلة من الإقلاع الحقيقي الذي تستحقه.
ومع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية لسنة 2026، بات من الضروري القطع مع الوجوه التي أثبتت فشلها، وفتح المجال أمام كفاءات جديدة قادرة على تنزيل الرؤية الملكية، وإعادة الاعتبار لمدينة الداخلة باعتبارها وجهة عالمية تستقطب الاستثمارات والسياح وتوفر لسكانها حياة كريمة.
فمن أراد أن يقف على حجم هذا العجز، ما عليه سوى القيام بزيارة ميدانية للمدينة، ليكتشف بنفسه الهوة السحيقة بين الإمكانيات الطبيعية والاقتصادية التي تزخر بها الداخلة وبين الواقع البائس الذي فرضه سوء التدبير والفساد المستشري.