آراءسياسة
أخر الأخبار

الأمن القوميّ الاستراتيجيّ.. في خطر “تحليل”

لكن السؤال يبقى عسيرا: كيف نحمي المنطقة وكيف نوقف وهم "إسرائيل الكبرى" التي بات نتنياهو يَعد بها تحت عين واشنطن ومبشّريها؟

اخترق القصفُ الإسرائيلي للعاصمة القطرية خطوطا حمراً. سبق لإسرائيل أن استهدفت بيروت، اجتاحت لبنان حتى عاصمته عام 1982، تمددت مؤخرا في جنوب سوريا، قصفت أهدافا قرب وفي دمشق.

حرب “7 اكتوبر” قادت إسرائيل، باسم حقّ الدفاع عن النفس وبالرعاية الأميركية المفرطة، إلى ضرب طهران وصنعاء وبيروت وضاحيتها.

أصابت نيران القصف مراكز قرار، لكن الأمر لم يرقَ إلى مستوى الهواجس التي انتابت المنطقة بعد قصف الدوحة.

يمكن استنتاج ذلك التوجّس من مضمون النصوص التي صدرت من العواصم العربية مستنكرةً الحدث مدينةً له. ويمكن تهيّب الأمر من خلال المواقف الشاجبة الشاملة التي صدرت عن عواصم الدنيا محذّرةً منبهةً من خطر اتّساع حرب غزّة واختراقها خطوط خرائط الشرق الأوسط برمته.

ولئن يصعب بمنطق العقل تصوّر تلك السيناريوهات المتشائمة، فإن ما تشهده المنطقة منذ “طوفان الأقصى” يخرج عن الحسابات التقليدية والتقديرات الأكاديمية الوازنة.

طرح الحدث أسئلة بشأن المدى الذي تطاله ضربات إسرائيل. تغرف الحرب أبعادا توراتية تنهل دعم الانجيليين الذين يشكلون قاعدة شعبية واسعة لترامب والترامبية وعقيدة الـ “MAGA” في الولايات المتحدة.

إنكفأت “الدولة العميقة” في واشنطن عن أبجديات المصالح التي تسيّر توجهات السياسة الخارجية. باتت الايديولوجيا في واشنطن تجعل من الدفاع عن إسرائيل واجبا “مقدسا” يتنفس عبقه من الأناجيل.

وفق البعد اللاهوتي، لم يعد احتمال ضرب إسرائيل للقاهرة أو أنقرة أو أي عاصمة خليجية أمرا خارج الحسابات.

فرغم بيان البيت الأبيض، وسعي الإدارة للنأي بنفسها عن “الإثم” المرتكب ضد الدوحة، ووصف ترامب لقطر بأنها “حليف رائع”، وارتجال استرضائها باتفاق دفاعي لن يرقى إلى مستوى معاهدة تحظى بموافقة ثلثي الكونغرس، فإن ما صدر عن منابر الإدارة يكشف إمعانا في إنتاج الذرائع وعوامل التفهّم لإسرائيل، وحكومتها المتطرّفة، ورئيسها بنيامين نتنياهو بالذات.

أمام سؤال الأمن القومي الاستراتيجي، تقف عواصم المنطقة حائرة وتسعى إلى الردّ على السؤال السرمدي: “ما العمل؟”.

لم تكن فكرة “الدفاع المشترك” ناجعة في حروب الماضي وهي أضعف في الزمن الحاضر. تُذكرنا وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام بكلمات للرئيس المصري الراحل، حسني مبارك، يشير فيها إلى فقدان البلدان العربية “الهيبة” بعد اضطرارها للاستعانة بالأميركيين لردّ الاحتلال العراقي للكويت.

في الأمر إشارة إلى مدى احتكار الولايات المتحدة للضمانات الأمنية. وهي حقيقة على الرغم من توسيع المنطقة علاقاتها السياسية والاقتصادية، وخصوصا العسكرية والأمنية، مع دول نووية كبرى أخرى مثل روسيا والصين.

بعد حدث الدوحة أعلن رئيس الوزراء القطري، الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، أن دول المنطقة تتشاور لاتخاذ موقف.

انعقاد القمة العربية الإسلامية في الدوحة كان ضرورة مهمة لإبراز صلابة موقف واسع عابر للحدود، يرفع بطاقات حمراً رفضا لشطط “اللحظة الإسرائيلية”، وتشكيل صدّ سياسي شامل لجعل الحدث حادثة لا تكرر.

لكن العواصم العربية باتت معنيّة باستراتيجيات أكثر نجاعة وفعالية، رغم أن الاهتداء إليها وانتظار ثمارها قد يأخذان آجال غير محدودة.

لا تريد العواصم قطيعة مع الضمانات الأميركية. كانت قطر نفسها سباقةً في التعبير عن ذلك حين سارعت إلى نفيّ تقارير تحدّثت عن عزمها مراجعة شراكتها الأمنية مع الولايات المتحدة.

قال موقع “أكسيوس” الأميركي إن رئيس الوزراء القطري أبلغ المبعوث الأميركي، ستيف ويتوكوف، ذلك. بدا أن نفيّ الدوحة يمثل أيضا مزاجا إقليميا عاما (يشمل تركيا) لا يريد تصعيدا مع الولايات المتحدة.

ولئن لم توفّر العلاقات الممتازة مع الولايات المتحدة، بما في ذلك وجود إحدى أكبر القواعد العسكرية في البلاد، الأمن لقطر، فإن روسيا لم توفّر الأمن لسوريا حين كان القصف الإسرائيلي داخل البلاد من روتين تفاهمات مع موسكو في عهد الأسد.

كما أن الصين لم تدّعِ يوما توفير أية مظلّة أمان في المنطقة، علاوة على أنها نسجت علاقات متقدمة مع إسرائيل تأخذها دائما بعين الجدية والاعتبار.

يداهم سؤال الأمن الاستراتيجي المنطقة. بدا المشهد الدولي معقّدا لجهة غياب الاصطفافات الدولية وإن أوهمتنا تجمعات مثل “البريكس” و “شنغهاي” وغيرها بوجودها.

ثم إن المنطقة بدت مكشوفة أمام تقدم تكنولوجيا الدفاع وتدخّل الذكاء الاصطناعي بمستويات لا تملك، في الوقت الحاضر على الأقل، القدرة على مجاراتها وامتلاك مفاتيحها.

ولئن يقف العالم أمام احتمالات انزلاق حرب أوكرانيا إلى مستويات عالمية، وحتى نووية، لم تكن واردة سابقا، فإن بلدان المنطقة تحتاح إلى التقاط الأنفاس والاجتهاد لفهم هذا العالم.

قد يبدو أن أهم خطوة هي تلك التي تنبّهت لها السعودية باكرا، وجعلتها ورشة مركزية داخل سياستها الخارجية: يجب وقف حرب غزّة. ليس فقط لأنها كارثة إنسانية.

وليس فقط انسجاما مع ثابت سياسي لطالما اعتمدته مع الدائرة العربية دفاعا عن الحقّ الفلسطيني. بل لأن تلك الحرب باتت خطرا على دول المنطقة من دون استثناء.

صحيح أن الأمر ليس بيد تلك العواصم، وقصف الدوحة خير دليل على امتلاك إسرائيل لقدرات تعطيل أي حلّ، لكن وقف الحرب لالتقاط الأنفاس بات يحتاج إلى ديناميات دولية بدأت بالبروز لتحقيق الأمر.

الأمن القومي الاستراتيجي العام في خطر. يحتاج الأمر إلى خطط خلاقة جريئة. خطط تحاكي شروط العصر وقواعده. تأخذ بالاعتبار البعد الإسلامي الواسع الذي قليلا ما غاب عن الفكر الأمني العربي.

تذهب صوب تنويع حقيقي ومتقدم لمصادر التسلّح البيتي والمستورد. خطط تأخذ بالاعتبار أننا نعيش في غابة تكنولوجية حديثة باتت تتحدث لغة الذكاء الاصطناعي ومعادلاته التي لا تفهم أبجديات شعبوية متقادمة عن أصول صون الأمم والزود عنها. خطط تنصب مظلات أمنية متعددة الهويات الإقليمية والدولية.

لكن السؤال يبقى عسيرا: كيف نحمي المنطقة وكيف نوقف وهم “إسرائيل الكبرى” التي بات نتنياهو يَعد بها تحت عين واشنطن ومبشّريها؟

https://anbaaexpress.ma/p4c89

محمد قواص

صحافي وكاتب سياسي لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى