لم تكن الضربة الإسرائيلية الأخيرة في الدوحة، التي استهدفت قيادات من الصف الأول في حركة حماس وأدت إلى مقتل نجل خليل الحية ومدير مكتبه وعدد من المرافقين، مجرد عملية عسكرية محدودة الأثر، بل كانت حدثًا مفصليًا كشف هشاشة المعادلات الإقليمية، ووضع مستقبل وجود قيادات الحركة في قطر على المحك.
فقد تحولت الإمارة الخليجية، التي لطالما وُصفت بأنها “عاصمة الوساطة” في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، إلى ساحة اختبار خطير تداخل فيه الأمني بالسياسي والدبلوماسي.
قطر بين دور الوسيط وضغوط الحلفاء
منذ سنوات، نجحت الدوحة في ترسيخ نفسها كوسيط رئيسي بين إسرائيل وحماس، بفضل استضافتها لعدد من قادة الحركة وتوفير منصة غير رسمية للتفاوض.
هذا الدور منح قطر نفوذًا سياسيًا يتجاوز حجمها الجغرافي والديمغرافي، وأتاح لها أن تكون لاعبًا لا غنى عنه في أي ترتيبات تخص غزة.
غير أن الضربة الأخيرة وضعت هذا النفوذ على المحك؛ إذ تتزايد الضغوط الأميركية والغربية على الدوحة لتقليص حضور حماس أو حتى طرد قياداتها.
هنا يبرز التناقض.. فبينما ترى قطر أن استضافتها قيادات الحركة شرط أساسي لاستمرار دورها في الوساطة، تخشى الولايات المتحدة وحلفاؤها أن يؤدي استمرار هذا الوضع إلى منح حماس شرعية إضافية، بل وقد يدفعها نحو خيارات أكثر راديكالية إذا تم الضغط عليها.
وفي الوقت نفسه، تدرك واشنطن أن إخراج قادة حماس من قطر قد يدفعهم إلى أحضان إيران أو سوريا، ما سيعقّد المشهد أكثر.
تركيا وإيران ولبنان: البدائل المحتملة
في ضوء تزايد المخاطر في قطر، تبرز أنقرة كخيار محتمل لانتقال قيادات حماس. فتركيا لطالما احتضنت الحركة، وسبق أن أحبطت مخابراتها عدة محاولات إسرائيلية لاستهداف شخصيات بارزة من صفوفها.
غير أن استضافة هؤلاء القادة ستضع أنقرة في مواجهة مباشرة مع ضغوط غربية – أميركية، خاصة وأن واشنطن وحلفاءها الأوروبيين يصنفون الحركة كـ”منظمة إرهابية”.
إيران بدورها تظل خيارًا استراتيجيا؛ فالعلاقة بينها وبين حماس تتجاوز الدعم المالي والعسكري إلى انخراط أعمق في محور “المقاومة”.
إلا أن لجوء قيادات حماس إلى طهران سيعزز من خطاب إسرائيل القائل بأن الحركة مجرد أداة في يد إيران، وهو ما قد يستخدم لتبرير مزيد من الضربات العسكرية والسياسية.
لبنان يشكل خيارًا آخر، نظرًا لوجود قوي لحماس هناك وتنسيقها الوثيق مع حزب الله. لكن استقرار الساحة اللبنانية الهش، والانهيار الاقتصادي والسياسي المتواصل، يجعل من هذا الخيار محفوفًا بمخاطر إضافية.
أما بلدان مثل الجزائر وماليزيا، فقد تطرح كوجهات ثانوية، لكنها لن توفر للحركة الوزن السياسي والأمني الذي تحتاجه.
غزة: خيار العودة المستحيل
يظل خيار عودة بعض القادة إلى غزة مطروحًا على الطاولة، لكنه يكاد يكون مستحيلاً في ظل الوجود العسكري الإسرائيلي المكثف.
العودة قد تمنح الحركة دفعة معنوية، لكنها ستجعل قياداتها أهدافًا مباشرة للاغتيال، ما قد يقوض بنيتها القيادية بدلًا من تعزيزها.
إسرائيل ورسائل ما بعد الضربة
الضربة الإسرائيلية في قلب الدوحة حملت رسائل تتجاوز الحركة: أولها أن إسرائيل لن تسمح لأي عاصمة عربية بأن تكون ملاذًا آمناً لقيادات حماس.
ثانيها أنها مستعدة للمخاطرة بعلاقاتها مع الحلفاء، حتى مع الولايات المتحدة، لتحقيق أهدافها الأمنية.
الانتقادات غير المعتادة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أظهرت حجم الحرج الذي سببه الهجوم، خاصة وأنه وقع في أراضٍ حليفة لواشنطن.
لكن تصريحات السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة داني دانون بأن “الهجوم لم يستهدف قطر، بل حماس”، جاءت لتؤكد إصرار تل أبيب على رسم خط فاصل بين الدولة المضيفة والتنظيم المستهدف، في محاولة لتخفيف حدة الأزمة الدبلوماسية.
أبعاد تاريخية: من دمشق إلى الدوحة
لا يمكن فهم اللحظة الراهنة دون العودة إلى محطات سابقة. فقد انتقلت قيادة حماس في سنوات سابقة من دمشق إلى الدوحة بعد اندلاع الحرب السورية وتوتر العلاقة مع نظام الأسد.
يومها، شكلت قطر ملاذًا سياسيًا آمنًا للحركة، وأداة لتوازنها بين المحاور. لكن الضربة الأخيرة تجعل من تجربة “الملاذ القطري” مهددة بالتفكك، على غرار ما حدث مع الملاذ السوري سابقًا.
معادلة بلا مخرج سهل
الحدث يكشف عن مفارقة استراتيجية: إسرائيل تسعى إلى تقويض حماس عبر ضرب قيادتها في الخارج، بينما الدوحة تجد نفسها مضطرة للاختيار بين فقدان نفوذها السياسي أو تعريض أمنها الداخلي لمخاطر متزايدة.
أما الحركة نفسها، فهي أمام خيارات كلها محفوفة بالمخاطر البقاء في قطر تحت ضغط متصاعد، الانتقال إلى دول قد تزيد من عزلتها الدولية، أو العودة إلى غزة لمواجهة مصير دموي شبه محتوم.
الضربة الإسرائيلية في الدوحة لم تكن مجرد اغتيال جديد، بل إعلان بأن الصراع مع حماس دخل مرحلة عابرة للحدود، حيث لم تعد الحركة ولا الدول المضيفة لها قادرة على ضمان “مناطق آمنة”.
وفي ظل هذا المشهد، تبقى هوامش المناورة ضيقة للغاية، فيما يظل مستقبل قيادة الحركة مرهونًا بتفاعلات معقدة بين الأمن والسياسة والدبلوماسية الإقليمية.
تعليق واحد