آراءسياسة
أخر الأخبار

الخطر الداخلي.. الطابور الخامس وتهديد استقرار المغرب

تصبح التربية على التفكير النقدي ضرورة، ليس فقط لتمييز الحقيقة من الكذب، بل لتمييز النقد الوطني من الخيانة المقنعة، فالنقد الوطني يسعى إلى الإصلاح من الداخل ويحافظ على سقف الوحدة الوطنية، بينما الطابور الخامس يستهدف ضرب الثقة بين المواطن ومؤسساته ليخدم مشروعا أجنبياً، والفارق بين الاثنين يحتاج وعيا جمعيا عميقا..

العدو حين يسكن داخل الوعي يصبح أكثر خطورة من أي جيش يطوّق الحدود“، بهذه القاعدة النفسية يمكن أن نقرأ تاريخ الشعوب ونفهم هشاشة استقرارها، فالطابور الخامس ليس مجرد كلمة عابرة أو مصطلح أمني، بل هو تجسيد لفكرة قديمة تتكرر في كل زمان، أن أكبر تهديد للأوطان لا يأتي من السماء المفتوحة على الطائرات ولا من الأرض المثقلة بالدبابات، بل يتسلل في هيئة بشر يشبهوننا، يتكلمون لغتنا، يرتدون ثيابنا، لكنهم يزرعون بذور الانقسام والشك والريبة، وحين ينجحون في غرسها يصبح المجتمع أكثر عرضة للتصدع من الداخل، كالجسد الذي يخونه جهازه المناعي فيسمح للسرطان بأن يفتك به..

ومن هنا كانت فلسفة التاريخ تقول إن الخيانة الداخلية أقصر الطرق لخراب الدول. المغرب الذي عاش قرونا وهو يواجه الغزاة من شواطئ المتوسط والأطلسي إلى تخوم الصحراء لم يكن ليتأخر استقلاله لولا أن المستعمر عرف كيف يشتري بعض النفوس ويسقط بعض العقول، فالمحتل الفرنسي والإسباني لم يعتمدا فقط على المدافع والعتاد، بل على مغاربة باعوا أسرار البلاد وسهلوا عملية السيطرة.

وهنا ولدت معضلة الطابور الخامس كمعضلة تاريخية تتجاوز مجرد التعاون مع العدو، فهي تعني قبول الفرد أن يتحول إلى أداة تخدم مشروعا خارجيا ضد مجتمعه، وهو ما يجعل الوعي الوطني أثمن سلاح يمكن أن يحمي الحدود، لأن الحدود بلا وعي داخلي تصبح مجرد خطوط مرسومة على الورق.

حين نقرأ تاريخ الاستعمار نجد أن الطابور الخامس في المغرب لم يكن حالة استثنائية، بل كان امتداداً لنفس المعضلة التي واجهتها شعوب أخرى، فالهندوس والمسلمون في الهند انقسموا، والعرب في فلسطين وجدوا أنفسهم أمام خيانات داخلية سهلت زرع الكيان الصهيوني، وهذا يعيدنا إلى 7 أكتوبر وما تلاها.

حيث أظهرت المقاومة الفلسطينية أن الخطر الحقيقي لم يكن فقط في الدبابات الإسرائيلية، بل في شبكات إعلامية وسياسية عربية دفعت باتجاه التطبيع وتبرير العدوان، فهؤلاء يمثلون الوجه المعاصر للطابور الخامس، الذي يتخفى وراء شعارات الديمقراطية والحرية لكنه في العمق يفتح الطريق لهيمنة الآخر على وعي الجماهير.

المغرب في هذا السياق ليس بمنأى عن هذه الظاهرة، فالطابور الخامس في العصر الحديث لم يعد مجرد عميل يجمع المعلومات سرا بل صار مؤثرا رقميا ينشر الشائعات علنا مستخدما تقنيات الذكاء الاصطناعي وحملات البروباغندا لتفكيك الثقة بين المواطن والدولة، وهنا يظهر خطر جديد يتجاوز السلاح المادي إلى السلاح النفسي.

حين نراقب منصات التواصل نجد أن كثيراً من الحملات التي تستهدف المغرب في قضية صحرائه أو في سياساته الداخلية لا تأتي من الخارج فقط، بل تجد لها صدى داخليا عبر أفراد يتبنون خطاباً يائسا أو انهزاميا، يرددون مقولات العدو ويزينونها بعبارات براقة حول الحرية وحقوق الإنسان، وكأن الدفاع عن الوطن صار تهمة، وكأن التشكيك في وحدته الترابية صار حرية رأي.

هذه الازدواجية تعكس كيف يعمل الطابور الخامس لا يظهر بمظهر الخيانة المباشر، بل يتسلل عبر قناع المثقف أو الناشط، يطرح أسئلة مشروعة ظاهرياً لكنه يوجهها في سياق يخدم مصالح خارجية، وهنا يصبح المجتمع أمام معركة وعي لا تقل شراسة عن معارك الميدان.

التاريخ المغربي يقدّم درسا بليغا حين ننظر إلى معركة الصحراء، فبينما كان الجنود يواجهون خصوما مدججين بالدعم الجزائري والليبي والكوبي في مرحلة معينة، كان الطابور الخامس يحاول من الداخل التشكيك في جدوى القتال، يروج لمقولات استسلامية، أو ينشر أخبارا مغلوطة عن وضعية الجيش.

لكن صلابة الوعي الجمعي وارتباط قضية الصحراء بالوجدان المغربي جعلت هذه المحاولات تفشل، وهذا ما يثبت أن الطابور الخامس لا يهزم بالرصاص بل بالوعي، وأن التربية الوطنية التي تغرس الانتماء منذ الصغر هي خط الدفاع الحقيقي..

لكن مع ذلك، يظل السؤال الفلسفي مطروحا لماذا يولد الطابور الخامس داخل أي مجتمع؟ الجواب يكمن في البنية النفسية للإنسان حين يشعر بالاغتراب أو يبحث عن مصالحه الخاصة ولو على حساب المجموع، فالفرد حين يرى أن الخيانة تجلب له منفعة شخصية قد يبرر لنفسه ذلك بأنه يواجه ظلما داخليا.

وهنا يلتقي البعد النفسي مع البعد السياسي، فغياب العدالة أو ضعف التواصل بين الدولة والمجتمع يخلق ثغرات يتسلل منها الطابور الخامس، ليحول المظالم الحقيقية إلى شعارات يستثمرها العدو.

وهذا ما رأيناه في الربيع العربي حين تحولت المطالب الاجتماعية العادلة إلى منصة استغلها الخارج لتفجير دول من الداخل، فسوريا وليبيا واليمن ليست سوى أمثلة على كيف يمكن للطابور الخامس أن يتحول من أصوات معارضة مشروعة إلى أدوات في يد قوى خارجية.

المغرب، بخلاف هذه الدول، عرف كيف يحصن ذاته جزئياً عبر إصلاحات تدريجية وحوار سياسي، لكن ذلك لا يلغي أن الطابور الخامس يظل موجودا، يستغل أي ثغرة، يتغذى من أي شرخ اجتماعي أو اقتصادي، ويتسلل عبر شبكات رقمية لا تعترف بالحدود.

وهنا تكمن خطورة المرحلة الراهنة أن الطابور الخامس لم يعد نخبة صغيرة متعاونة مع الاستعمار كما في الماضي، بل أصبح جمهوراً رقمياً واسعاً قد يكون من دون وعي جزءاً من حملة معادية، عبر إعادة نشر إشاعة أو الترويج لخطاب عدمي، وهو ما يجعل المواطنة الرقمية جزءاً من الأمن القومي.

في ضوء ذلك، تصبح التربية على التفكير النقدي ضرورة، ليس فقط لتمييز الحقيقة من الكذب، بل لتمييز النقد الوطني من الخيانة المقنعة، فالنقد الوطني يسعى إلى الإصلاح من الداخل ويحافظ على سقف الوحدة الوطنية، بينما الطابور الخامس يستهدف ضرب الثقة بين المواطن ومؤسساته ليخدم مشروعا أجنبيا، والفارق بين الاثنين يحتاج وعيا جمعيا عميقا.

إن مواجهة الطابور الخامس اليوم ليست مجرد مسألة أمنية، بل مسألة وجودية تتعلق بقدرة المغرب على حماية استقراره وسط عالم متغير تحكمه الحروب الهجينة، حيث تمتزج الحرب الإعلامية بالحرب النفسية.

وحيث تصبح الشائعة أخطر من الرصاصة، وحيث يكفي مقطع فيديو مفبرك لزرع الشك في عقول الآلاف، وإذا لم يكن هناك وعي جماعي يحصّن العقول فإن أي إنجاز عسكري أو دبلوماسي يمكن أن ينسف من الداخل.

من هنا نفهم أن التحدي أمام المغرب ليس فقط في مواجهة الجيوش أو القرارات الدولية، بل في مواجهة الطابور الخامس الذي يتغذى من كل ضعف داخلي، ويحول الخلافات الطبيعية إلى قنابل موقوتة.

والتاريخ يعلمنا أن الأمم التي لم تنتبه لهذا الخطر سقطت من داخلها قبل أن تهزم من الخارج، فالإمبراطورية العثمانية لم يسقطها الغرب فقط، بل أسقطها أيضا طابور خامس داخلي ارتبط بالمصالح الأجنبية، وكذلك الاتحاد السوفيتي الذي تفكك حين فقد المجتمع الثقة في مشروعه وأصبح الإعلام الغربي قادرا على اختراقه من الداخل.

خلاصة القول إن المغرب اليوم أمام مسؤولية مضاعفة حماية وحدته الترابية وسيادته الخارجية، وفي الوقت نفسه تحصين جبهته الداخلية من كل اختراق نفسي أو إعلامي أو ثقافي، لأن أي تفريط في الداخل سيجعل الخارج أكثر شراسة.

واليقظة هنا لا تعني الرقابة وحدها، بل تعني بناء وعي جماعي يفرق بين النقد المسؤول والخيانة المقنعة، بين المطالب الوطنية المشروعة وبين الأجندات الخارجية، بين الحرية التي تصون الوطن وبين الحرية التي تبرر بيعه..

إن الطابور الخامس ليس وهما بل حقيقة تاريخية متجددة، ولعل أخطر ما فيه أنه يتقن التمويه، يظهر أحيانا في صورة ناشط حقوقي وأحيانا في صورة مثقف نقدي، لكنه في النهاية يشتغل كأداة تخريب داخلي..، والمغرب، إذا أراد أن يظل واقفا وسط عواصف العولمة وصراع القوى الإقليمية، يحتاج أن يقرأ تاريخه جيدا فكل خيانة صغيرة كانت دوما سببا في جرح كبير، وكل يقظة وطنية كانت دوما أساسا للانتصار.

https://anbaaexpress.ma/5u0fp

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى