حين يرحل الشهود وتبقى الجريمة عارية في الذاكرة، تتجلى مأساة الوجود الإنساني في أبهى صورها وأقساها، حين يقتل الناقلون للخبر، فلا تموت الكلمة، بل تتحول إلى رمز خالد يعانق النسيان ويتحدى الزمن.
في شمال غزة، عند بوابة مستشفى الشفاء، حيث قضى أنس الشريف ومحمد قريقع، لم يمت الصحفيان وحدهما، بل قتل حلم بحقائق حرة تضيء دروب الظلام، حلم مقاومة بالكلمة في وجه آلة القتل التي تسعى إلى تجريد الحقيقة من روحها، إلى محو الوعي الجمعي الفلسطيني.
هنا، لا يمكن أن يفهم هذا الاستهداف على أنه مجرد عمل عسكري بارد، بل هو حرب على الوعي ذاته، محاولة لقتل الشهود الذين يحملون رؤية العالم إلى قلب الجحيم ، محاولة لإسكات الصوت الذي يفضح زيف القوة ويعيد رسم معالم المقاومة.
هذه الحرب على الشهود تحمل في طياتها بعدا فلسفيا عميقا، إذ هي صراع بين الوجود والعدم، بين الحق والسطحية، بين الذاكرة والنسيان.
فالأحداث ليست مجرد وقائع مؤقتة، بل هي رموز تعبر عن أزمة وجودية تواجه الإنسان حين يُحاصر في دوامة القتل والتشريد، ويحاول أن يحافظ على هويته وسط أتون الانكسار.
ويبدو أن القاتل، رغم كل محاولاته، يغفل حقيقة فلسفية أساسية.. أن الذاكرة الجماعية ليست سجلا جامدا بل كائن حي، تتغذى على الألم، وتنهض من رماد السقوط لتعيد صياغة المقاومة بإرادة لا تنكسر.
قتل الشهود إذن، لا يعدو كونه محاولة يائسة لاقتلاع جذور الحقيقة، لكنها جذور عميقة لا تستطيع آلة القتل انتزاعها من الأرض.
في هذا السياق، تصبح معركة غزة رمزا أوسع في تاريخ الشعوب، حيث تتلاقى آلام الحاضر مع إرث طويل من الاضطهاد والصراعات… هو درس في فلسفة التاريخ، التي تؤكد أن الأحداث العنيفة لا تمحو الماضي بل تشكل حاضر المستقبل، وأن أي محاولة للطمس ستبوء بالفشل لأن الحقيقة حين تنجو، تصبح أشد إصراراً على الحضور.
تتلاقى هنا السيكولوجيا مع التاريخ، فقتل الصحفي هو محاولة لإحداث جرح في وعي المجتمع، لكن الوعي بدوره يجيب بجروح أعمق في جسد الظلم، وتستمر الملحمة، غير مكتملة، حتى يتحقق النصر بالكلمة والذاكرة والصمود.
إنها حكاية الإنسان الذي يقف أمام الموت غير خائف، لأن الكلمة الحرة، حتى لو عصف بها رصاص الطغيان، تظل أبدية في الوعي الجمعي، وفي روحها، تضيء دروب الحرية وتخلد ذكرى الشهداء، فتتحول الجريمة إلى منارة لا تنطفئ، والذاكرة إلى ملحمة، والدم إلى شهادة حية على أن الحقيقة ستنتصر مهما طال الليل.