عبدالله فضول
لنفترض جدلًا أن المجتمعات الجبلية، التي اعتادت الهواء النقي والمرتفعات الوعرة، غادرت فجأة إلى الصحارى القاحلة، حيث الحرارة الحارقة والفراغ الممتد بلا ظل.
و سكان الصحارى تركوا كثبانهم الرملية وانتقلوا إلى السواحل، حيث الرطوبة والملوحة والضجيج البحري المستمر.
أما أهل السواحل، فرحلوا بدورهم إلى وجهة مجهولة، ربما إلى الغابات أو السهول أو المدن الداخلية.
كل هذا يحدث كل سنة أو سنتين، في حركة جماعية غير مسبوقة، كأن الأرض تعيد توزيع سكانها وفق منطق غامض لا يخضع للتخطيط أو التدرج، بل للدهشة والارتباك.
في هذا التبديل المفاجئ، ستتغير ملامح الأرض، وستتفاعل الطبيعة بطرق لا يمكن التنبؤ بها. وستنشأ تحولات جذرية، بعضها صادم، يدفع الناس إلى إعادة التفكير في علاقتهم بالمكان والهوية. سيشعر البعض بالحنين، وربما بالضياع، حين يكتشفون أن الجبل لم يكن مجرد تضاريس، بل جزءًا من ذواتهم، وأن الصحراء لم تكن فقط رمالًا، بل ذاكرة وصوتًا داخليًا.
وسيدركون أن التكيف ليس مجرد تغيير في نمط الحياة، بل اختبار عميق لإعادة تعريف الذات.
لكن الأهم من كل ذلك، أن الإنسان لن يظلم الآخر، لأنه سبق أن عاش تجربته.
فإنسان الجبل لن يظلم إنسان السواحل، لأنه سكن البحر يومًا، وذاق ملوحته، وسمع ضجيجه، وفهم طقوسه.
وإنسان السهول لن يحتقر إنسان الصحراء، لأنه جرب العطش، وواجه الريح، وتعلّم الصبر من الرمل.
وإنسان الصحراء لن يتعالى على إنسان الجبل، لأنه صعد ذات يوم، وتعب، وتأمل من علُ.
كل واحد منهم حمل تضاريس الآخر في قلبه، وعاشها، وتألم بها، فصار الفهم أعمق، والحكم أقل، والرحمة أكثر.
سيبحث الناس عن جذورهم في أماكن جديدة، يحاولون أن يزرعوا فيها ما تبقّى من ملامحهم القديمة، لكنهم سيكتشفون أن الأرض لا تمنح نفسها بسهولة، وأن لكل مكان طقوسه الخاصة للقبول والانتماء.
فمجتمعات الجبال لن يُظلموا إن حافظوا على إرثهم، وتوارثوا الحكايات كما يتوارثون الحجارة الصلبة التي بنت بيوتهم.
ومجتمعات السهول لن يُهمّشوا إن ظلّوا يزرعون الأمل كما يزرعون القمح، ويؤمنون أن الاتساع لا يعني الفراغ، بل فرصة للامتداد والتواصل.
ومجتمعات السواحل لن يُنسَوا إن ظلّوا يحكون للبحر قصصهم، ويُعلّمون أبناءهم أن الموج لا يمحو الذاكرة، بل يعيد كتابتها بلغةٍ أكثر عمقًا.
كل مجتمع يحمل نغمة خاصة في سيمفونية الوطن، وإن تنافرت الأصوات، لن يُقصى أحد، بل سيُعاد تشكيل المعنى من جديد.
لن تكون هناك حروب تُشعلها الأوهام، ولا فتن تُغذّيها الجهالة، ولا قتل يُبرَّر بالخوف أو الطمع. سيخلو العالم من الصراعات التي تُولد من سوء الفهم، ومن الجدران التي تُبنى بين القلوب قبل أن تُبنى بين المدن.
وسيتلاشى التطاحن الاستعلائي حين يدرك الإنسان أن العلو الحقيقي لا يكون على الآخر، بل في الارتقاء معه.
سيكون الاختلاف مصدر غنى، لا سببًا للفرقة. وسيتحوّل التنوع من تهديد إلى وعد، ومن عبء إلى نعمة. وحينها، لن يُنظر إلى الجبل كعائق، ولا إلى البحر كحد، بل كامتداد للذات، ومرآة للآخر.
الإنسان ليس مجرد ساكنٍ للمكان، بل عابرٌ للتجربة، حاملٌ لذاكرة التضاريس التي مرّ بها، متألمٌ بما تألم به الآخر، وممتنٌ لما تعلّمه من عبوره.
فالإنسان لا يظلم من فهمه، ولا يحتقر من عاش تجربته، بل يقترب من ذاته، ويقترب من الإنسانية ذاتها، حين يجرب كل تضاريس الأرض.
* كاتب وقاص للقصة القصيرة جدا
جميل هذا التعبير ( الجدران التي تبنى بين القلوب قبل أن تبنى بين المدن) يذكرني بقول المرحوم بوجميع: لاش الحروب لاش الطغيان احنا خاوا حنا حباب يا بني الانسان