شكل الاستقرار في مساكن محددة ضربة لازب مع الثورة الزراعية. ولكن الأبحاث الانثروبولوجية الجديدة كشفت في منطقة الشرق الأوسط ما يفك هذه الارتباط بين الأمرين.
فلقد استقر الانسان في جماعات وبنى بيوتاً قبل مرحلة الثورة الزراعية وبقي لفترة يعتمد الصيد الجماعي مع الاستقرار وكان هذا قبل 11 ألف سنة وتم كشف منطقتين تشير الى هذا الانتقال المتدرج في كل من (أبي هريرة ) في شمال سوريا و (كوبكللي تبه GOEBEKLI TEPPE) في جنوب تركيا.
كانت مجموعات انسانية تعتمد دفع قطعان الغزلان الى مكامن خاصة تشكل سورين على شكل حرف 7 أمامها خنادق تسقط فيها الحيوانات المذعورة وكانت الحصيلة أطناناً من لحوم الفرائس. وحتى لاتقع ضحية عدوان الوحوش أو هجوم الجيران من المجموعات الانسانية المجاورة فقد تم الاحتفاظ بها في صوامع خاصة هي أماكن العبادة وبذلك فإن مراكز التقديس اختلطت بالرزق الوفير.
وكان الحدث الثاني الأشد أثارة هو ماكشف عنه الانثروبولوجيون في منطقة (جطل هاياك CATAL HUYUK) في وسط تركيا حيث عثر على بقايا بيوت عجيبة لهذه الجماعات الانسانية البدائية فقد سكنوا في بيوت متجاورة متلاصقة بدون شوارع جانبية أو أزقة تفصلها أو أفنية للتهوية.
كان البشر يصعدون على سلالم الى كوات تنفذ الى غرف ضيقة معتمة قليلة التهوية أشبه بزرائب أو مدافن. كانت حوالي 2000 عائلة تضم آلاف الناس يعيشون في حياة جماعية بئيسة تفتقد أدنى الشروط الصحية للحياة الانسانية وبين أقدامهم اختلطت بقايا الطعام مع مخلفاتهم الانسانية. لم يكن هناك آبار أو مدافن.
لم يستخدموا الأواني كما لم يعرفوا أكل الخبز ولم يزرعوا مع أنه كان ينمو قريبا منهم في الحقول.
أما الميت فكان يلقى في العراء تفترسه طيور السماء والهياكل تدفن تحت الأقدام . ثم مشى التطور الانثروبولوجي مرحلة مرحلة وعند زمن 8000 قبل الميلاد شوى الانسان الفخار وفي 7600 ق.م بدأت الزراعة وفي 7000 ق. م تم استئناس الحيوان.
أما الهندسة فكانت قبل ذلك خيوطا عوجاء أو مدورة وقبل 9000 سنة من الآن ظهرت الخطوط المستقيمة في قفزة عند الانسان العاقل (الهومو سابينيس HOMO SAPINES). وكما يقول الحجة الانثروبولوجي (جولدن شايلدGOLDEN CHILD) من استراليا و(كلاوس شميدت KLAUS SCHMIDT) من جامعة (هايدلبرغ HEIDELBERG) من ألمانيا فإن بدايات انتقال الانسان الى التحضر لم تكن في جنوب العراق كما ذكر ذلك المؤرخ البريطاني توينبي في كتابه (الانسانية من أين والى أين؟) بل بدأت في منطقة الاناضول من تركيا.
وكما يبدو على كافة الأقوال فإن مهد الحضارة كان في الشرق الأوسط قبل أن يعم العالم جميعاً . أما موجات الهجرة الانسانية الى أوربا فقد مشت في موجتين قديمة قبل الطوفان وصلت منطقة البلقان بدون تقنية الزراعة ثم حدث تحول خطير 5300 قبل الميلاد حينما ظهرت مجموعات بشرية على نحو مفاجيء في حوض (الكرابات) ومعها تقنيات جديدة اجتاحت بها مجموعات أوربا ونشرت فن الزراعة في كل القارة الأوربية.
إن تحول المناخ وآثاره كان له الدور الحاسم في حركة الانسان فلقد مرت على الأرض فترات من الجفاف الموجع كانت تقضي على البشر دوما وتحدد أعدادهم.
فقبل 18 ألف سنة بلغ العصر الجليدي ذروته وكانت نصف مساحة أوربا في حكم الميتة ووصلت كثافة المدرعة الجليدية فيها الى ألفي متر . وعاش الانسان لفترة مائة ألف سنة (عصر البلايستوسين) في حالة يائسة وهرب من كل منطقة التجمد الشمالية.
ثم ذاب الجليد وارتفع منسوب المياه وتضاعف بحر قزوين أربعة أضعاف. وقد يتعجب المرء من دقة هذه المعلومات ولكن التقدم العلمي يقرأ الأرض في رق منشور غير قابل للتزوير وبأدوات مسح مذهلة. ومع فترة ذوبان الجليد الأولى التي تمت قبل 18 ألف سنة حصل تحول في مناخ أوربا والمتوسط وظهرت واحات خضراء في الشمال الأفريقي وتناثرت البحيرات في أوروبا.
وقبل 10500 سنة بدأت فترة الجفاف الأولى وبقي الجو لفترة ألف سنة بارداً بدون أمطار وانكمشت بحيرة كانت في منطقة البحر الأسود الحالي يفصلها عن بحر مرمرة والمتوسط ممر صخري يشكل سدا للحماية و معبرا بين أوربا وآسيا. وبين عامي 6200 و5800 ق. م عادت فترة جفاف جديدة وتناقص عدد البشر بسرعة.
وعند عام 5500 قبل الميلاد كان العالم على مشارف انقلاب جيولوجي وانثروبولوجي وعلى عتبة تاريخية من انقلاب المناخ.
وعاصر هذا وصول الانسان الى الوضع الثقافي فأصبح حضرياً يمارس الزراعة. ولم تكن الاهرامات قد بنيت في مصر بعد. وهذه الفترة هي التي يسميها علماء الانثروبولوجيا (ثورة العصر الحجري) ولم يعرف حتى الآن السبب الذي أدخل الانسان مرحلة الثورة الزراعية وإن كانت الأبحاث تشير أن المرأة هي التي وضعت يدها على سر (الزراعة) وأهم مافي هذا الانقلاب أنه مكَّن الانسان لأول مرة في تاريخه من التخلص من ضغط الجوع وأن لايقضي نحبه في المسغبة.
ومع توافر غلال القمح التي توفر الكفاية من السعرات الحرارية بدأت أعداد البشر في التزايد وحصل كما تصفه الانثروبولوجيا (بالانفجار السكاني) حيث تكاثرت أعداد الناس حول (البحيرة السوداء) التي كانت في موضع البحر الأسود الحالي الى عشرين ضعفاً في فترة قصيرة ونمت القرى على نحو كثيف بحيث كانت لاتغيب الواحدة عن الأخرى سوى أربع كيلومترات في قرى ظاهرة كما وصف القرآن أهل سبأ (وقدرنا فيها السير سيروا فيها ليالي وأياما آمنين).
حتى جاءهم السيل العرم فمزقهم كل ممزق. كما أن التاريخ الانساني حافل بكوارث كونية مخيفة وقصة الطوفان كانت من حجم كوني.
حينما اندلقت مياه المحيط الى البحيرة السوداء التي كان مستوى المياه فيها دون أقل بـ 120 مترا عما هو عليه البحر الأسود حالياً.
بعد أن حطمت عتبة البوسفور فوصلت البحر الأسود بالمتوسط بعد أن ارتفع مستوى المياه في البحيرة ليتشكل البحر الأسود ولكن مع غرق شعوب كاملة تعيش على ضفاف البحيرة في المنطقة فاجأتها أمواج كالجبال.
وسكان حضارة سومر في (اور) و (اوروك) قاسوا الكثير من الفيضانات ومن أشهرها ماحدث عام 3200 ق. م حينما غرقت مدينة أور في وحل دجلة بارتفاع مترين ونصف ولذا كانوا أسرع الناس في تخليد قصة الطوفان كتابة .
إن تقديرات الانثروبولوجيين أنه لايقل عن 200 ألف من السكان على حواف البحيرة والذين كانوا يمتلكون تقنية الزراعة وصوامع حبوب العصر القديم أصبحوا بغير مأوى وتفرقوا أيادي سبأ.
وأما الذين فاجأهم الطوفان في السهول فلم تكتب لهم النجاة . وتظهر قصة نوح من كل هذا الضباب التاريخي لولادة عصر جديد أفضل وبعلاقات انسانية أكثر تقدمية وأرحم في تحرير الانسان من الاستغلال فكل مشاكل الظلم الاجتماعي جاءت من الملكية والثورة الزراعية.
ثم إنه ليس مثل المحن والتشرد مايجمع قلوب الناس.
ويرى دوغلاس بايلي (DOUGLAS BAILY) من جامعة (كارديف) في بريطانيا أن هذا النزوح الجماعي حمل في تضاعيفه نشر تقنية الثورة الزراعية في الأرض . أي أن هذه المحنة الكونية كانت خيرا من وجه آخر…
وبهذا يكون طوفان نوح ليس دمارا للبشرية بل إيقاداً لزناد التقدم الانساني. رحلة البحث لم تنته بعد وماجاء في الكتب المقدسة لم يتطابق تماماً مع الكشف الجديد.
ولايشترط أن يكون هذا الطوفان هو طوفان نوح تحديداً ولن يغير قناعتنا حوله ولكنه إن وصل الى نتائج قطعية فسوف يكون حدثاً مثيراً.
وقد اتفق بالارد الآن مع معهد التكنولوجيا في ماساشوست (MASSACHUSETTS INSTITUTE OF TECHNOLOGY) لتطوير الغواصة (ROV) وهي تعمل بالريموت كونترول (REMOTLEY OPERATED VEHICLES) وفيها قدرة النبش والحفر والتنقيب والتحرك الى قدر انملة والتقاط الأشياء المشبوهة والتصوير الملون بقدرة فائقة كما فعلت عربة السوجرنير على ظهر المريخ، وبالارد متفاءل أنه سيضرب ضربته في كشف النقاب عن أكثر فصول التاريخ القديم إثارة بالكشف عن سفينة نوح ولتعلمن نبأه بعد حين.