آراءثقافةمجتمع
أخر الأخبار

موت الجملة الحية.. وصعود البلادة الذكية ؟!

كأن الذكاء الاصطناعي حين كتبها لم يفعل شيئا سوى محاكاة البلادة الذكية التي تنمو بهدوء في تربة صحفية وأدبية لا تبحث عن الأسلوب بل عن السرعة، ولا تهتم بالجرح بل تهتم بالعرض..

منذ أن بدأت اللغة تفقد ارتباكها القديم، وبدأت المقالات تكتب ببرودة لا تليق بحزن الحقيقة، لاحظت أن شيئا ما ينكسر بصمت في عمق المشهد الثقافي، شيئا لا يرى، لكنه يلمس من بين السطور، كما يلمس فقدان النفس في الجملة.

ليس الأمر مجرد ملاحظة عابرة، بل يقين ترسب في داخلي كلما فتحت بريد الجريدة لأقرأ مقالة جديدة وصلت من كاتب يبدو في الظاهر حقيقيا، لكنه في العمق ليس سوى واجهة لآلة تكتب من دون ماض، ومن دون جرح، ومن دون ذاكرة.

تفحصت المئات من هذه النصوص خلال الأشهر الأخيرة، وكلما قرأت واحدة منها، أحسست أن الكلمات تعاد تشكيلها وفق نموذج ممل، كأنها تكرر بعضها البعض دون أدنى مقاومة، لا تخطئ لأن من كتبها لا يتردد، لكنها أيضا لا تدهش لأن لا قلب خلفها ينبض ولا عقل يتورط في السؤال..

كأن الذكاء الاصطناعي حين كتبها لم يفعل شيئا سوى محاكاة البلادة الذكية التي تنمو بهدوء في تربة صحفية وأدبية لا تبحث عن الأسلوب بل عن السرعة، ولا تهتم بالجرح بل تهتم بالعرض.

إنها نصوص نظيفة أكثر من اللازم، خالية من البصمة، من الرعشة، من التوتر الوجودي الذي يصاحب الكتابة حين تكون فعلا بشريا محفوفا بالندم والتردد والصراع مع المعنى..

إن الذكاء الاصطناعي لا يكتب، بل يعيد كتابة ما سبق أن قيل بطرق كثيرة، بأساليب محسنة رقميا، خالية من التكرار النحوي، لكنها مشبعة بتكرار الوعي المعلب، كأنك تقرأ قطعة خبز مغلفة، تشبه الخبز الحقيقي في الشكل، لكن طعمها بلا روح..

وهذا ما يثير قلقي بوصف من ينتمي للمهنة لا كوظيفة، بل كألم وجودي يومي، هو أن أغلب المنصات الصحفية والمواقع الإلكترونية بدأت تستسيغ هذا النوع من النصوص، لا لأنها عميقة أو تحمل وجهة نظر، بل لأنها تكتب بسرعة، وتناسب خوارزميات الظهور.

دخلنا لحظة حاسمة من التحول، لم يعد المطلوب من الكاتب أن يكون كاتبا، بل أن يكون متخفيا خلف برنامج مولد للنصوص، أن يتنازل عن شرف الإخفاق من أجل مجد السرعة. وهنا بالضبط تبدأ الكارثة..

حين تتوقف الكتابة عن أن تكون معاناة شخصية وتتحول إلى عملية إنتاج نصوص شبه متشابهة، بأدوات لغوية غير معطوبة، لكنها غير مؤلمة أيضًا، لأن الألم لا يولد في الخوارزميات، بل في البشر.

أتفهم من يبررون هذا التحول باسم التطور، وباسم الديمقراطية الرقمية، وأتفهم أن الأدوات تتغير وأن اللغة نفسها تتأقلم مع وسائل جديدة، لكن ما لا يمكن قبوله هو أن نخضع الوعي الإبداعي للميكانيكا، أن نذيب الفردانيات الأدبية والفكرية في محيط من النسخ المتعددة من نفس النص.

فالإبداع لا يقاس بعدد السطور المنتجة، بل بمدى الغرابة التي تتركها في ذهن القارئ بعد انتهائه من القراءة.

النصوص التي تكتب بالذكاء الاصطناعي تشبه كثيرا الخطب السياسية الجيدة من حيث الشكل، لكنها فارغة من أي نبرة حقيقية، من أي زلة بشرية، من أي انفلات لغوي يشير إلى أن الكاتب كان هناك، حيا، غاضبا، مرهقا، مترددا، خائفا، أو حتى تافها أحيانا، لكنها توافه صادقة.

حين تنظر إلى بعض المقالات اليوم، لا ترى أثر الجسد في اللغة، لا ترى التوتر العضلي في تركيب الجملة، ترى فقط نتائج معالجة اصطناعية لرغبة غير موجودة في قول شيء حقيقي..

وهذا ما يقتل المعنى تدريجيا، لأن المعنى لا يولد من البلاغة المحسوبة، بل من المجازفة الداخلية التي يخوضها الكاتب ضد نفسه أولا، وضد قرائه أحيانا، وضد السلطة كثيرا.

حين تكتب آلة، فهي لا تخاف من شيء، لأن لا عقوبة خلفها، ولا ماضي يطاردها، ولا ذاكرة توجعها، حين يكتب كاتب حقيقي، فإنه يدخل إلى المجهول، يفتح جرحه ليجعل اللغة تنزف شيئا منه..

وهذا هو الفرق الجوهري الذي يجعلنا نؤمن أن النص البشري، رغم كل عيوبه، لا يزال ضروريا في لحظة الغرق الحالية، لأن البلادة التي تنتشر بصمت في العالم الرقمي ليست سوى الشكل الجديد للأمية المعولمة، حيث الكل يكتب، لكن لا أحد يقرأ، والكل ينشر، لكن لا أحد يغامر بالتفكير..

نحن لا نواجه فقط أزمة كتابة، بل أزمة وعي، حيث تختزل الكتابة في وظيفتها الشكلية، وتنسى باعتبارها طريقة معقدة للبوح والتأويل والمقاومة.

وفي هذا السياق، تبدو مقاومة الذكاء الاصطناعي واجبا أخلاقيا لكل من يكتب من أجل الصراع مع الذات قبل الصراع مع العالم، لا من أجل النجاة في خوارزمية بلا ضمير.

إن اللحظة القادمة ستكون مفصلية، إما أن نعيد الاعتبار لفعل الكتابة بوصفه تمرينا وجوديا، أو نسقط جميعا في تكرار لا نهائي لصيغ قديمة تعاد تدويرها بصيغ جديدة.

وكما قال الفيلسوف الألماني “هايدغر” ذات يوم: “إن أخطر ما في التقنية، ليس ما تفعله بنا، بل ما تفعله فينا دون أن ندري”.

https://anbaaexpress.ma/s4u9r

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى