في لحظة يلتقي فيها اللهب برائحة التاريخ، احترق جزء من مسجد قرطبة، وكأن النيران لم تكن سوى قلم أحمر يخط على جدران الذاكرة أن الحقيقة ليست جمادا من حجر وخشب، بل هي كائن حي يحرق ليولد من جديد، وأن هوية المكان، مهما حاولت القوى المعاصرة إخفاءها أو إعادة تشكيلها، تظل تتسرب مثل الدخان من بين الشقوق.
فمنذ أن وضع عبد الرحمن الداخل، أمير الأندلس الأموي، أسس هذا المسجد في القرن الثامن، كانت الأعمدة الكثيفة والأقواس الحمراء والبيضاء والمحراب البديع والصحن المهيب ليست مجرد معمار، بل منظومة رمزية كاملة تمزج بين الوظيفي والقدسي، بين العملي والتأملي، بين الجغرافيا والروح.. ومع أن الحريق الأخير لم يلتهم كل شيء، إلا أنه أشعل ما هو أخطر، سؤال الذاكرة والملكية والهوية، في قلب إسبانيا التي ما زالت تتعامل مع إرثها الإسلامي وكأنه ظل ثقيل في ممرات وعيها الجمعي.
الحدث في ظاهره تقني مكاني: نار اشتعلت، أخشاب احترقت، وأجهزة إطفاء هرعت.. لكنه في باطنه يعيدنا إلى جدلية أعمق بين الذاكرة المؤسسية والذاكرة الشعبية، بين من يملكون مفاتيح المكان ومن يملكون ذاكرته.. فالمسجد الذي أُدرج على لائحة التراث العالمي لليونسكو، ظل طوال عقود تحت إدارة كنسية مغلقة، تحرسه طقوس وأجندات لا تعترف دوماً بأصله ولا بروحه المعمارية الأولى، حتى أن اسمه نفسه أصبح مادة صراع، إذ جرى محو كلمة “مسجد” تدريجياً من الكتيبات واللافتات منذ 2006، وكأن اللغة قادرة على إعادة كتابة الجدران.
وهذا المسعى ليس شأنا عرضيا، بل هو امتداد لسيكولوجيا السلطة حين تمسك بذاكرة خصمها التاريخي.. فهي لا تكتفي بالاستيلاء على المكان، بل تسعى لإعادة تعريفه في الوعي العام، لتثبيت سردية جديدة تحل محل الأخرى.
في المقارنة، يبدو المشهد في المغرب كأنه مرآة تعكس المفارقة.. هنا توجد معابد يهودية قديمة، هجرتها الجالية بفعل ظروف القرن العشرين، بين المحرقة النازية وتأسيس “الكيان الإسرائيلي، الذي يرتكب حاليا أبشع المجازر في غزة والتي فاقت جرائم النازيين”، ومع ذلك لم تحول هذه المعابد إلى مساجد، ولم تطمس هويتها الدينية الأصلية، حتى وإن بقيت بلا مصلين.
هذه المعابد تترك كما هي، ترمم أحيانا، أو تغلق بصمت، لكنها لا تعاد كتابتها في الوعي العام بوصفها شيئاً آخر..
الرسالة بسيطة، ما بني ككنيس سيظل كنيسا، لأن المكان يحتفظ بالهوية التي ولد بها، حتى لو تغيرت الجغرافيا السكانية حوله. أما في قرطبة، فالأمر مختلف، الصرح الذي ظل مسجدا لقرون، وأدى فيه آلاف المسلمين صلواتهم، تحول إلى كاتدرائية بفعل حرورب الاسترداد المسيحية للأندلس ومحاكم التفتيش، ثم أعيد إنتاجه خطابيا وثقافيا كأنه لم يكن يوما مسجدا جامعا.
وهنا تتجلى دينامية أكثر تعقيداً، إنها ليست مجرد إدارة لمبنى، بل إعادة صياغة للذاكرة، وصراع على المعنى.
الحريق، إذن، لا يمكن فصله عن نموذج الإدارة الذي طالما أثار الجدل.. فحين تبقى مواقع التراث الكبرى تحت وصاية مغلقة، ويدار استخدامها بمعايير طقسية أو سياسية تتجاوز مقتضيات الحماية العلمية، فإن الخطر يصبح مسألة وقت.
السيكولوجيا هنا تفضح نفسها، سلطة ترى في المبنى رمزاً لشرعية سرديتها، لكنها لا تعامله ككائن هشّ يحتاج إلى رعاية علمية صارمة، بل كمشهد متحكم فيه، حيث الأولوية للصورة التي تريد عرضها لا لسلامة الأصل.
من منظور تاريخي، هذه ليست ظاهرة جديدة، بل تكرار لنمط قديم: كل قوة غالبة تحاول إعادة تشكيل رموز القوة السابقة وفق صورتها، وأحياناً على حساب البنية المادية ذاتها.
لكن قرطبة ليست أي مدينة، ومسجدها ليس أي مبنى. فهو تجسيد لعصر كان الأندلس فيه جسرا بين ضفتي المتوسط، ومركزاً للعلوم والفنون والفلسفة، ومختبرا للتعايش، قبل أن ينهار كل ذلك في زمن الاسترداد المسيحي، حيث أعيدت كتابة الخرائط السياسية والعمرانية.
وفي القرن الحادي والعشرين، يعيد الحريق تذكيرنا بأن الماضي ليس مدفونا تحت طبقات الحجارة، بل حاضر في الصراعات الإدارية والرمزية المعاصرة. فالمطالبات المستمرة منذ 2010 من قبل مؤرخين وهيئات مدنية بإعادة الاعتراف الرسمي باسم “مسجد–كاتدرائية” ليست نزوة لغوية، بل مقاومة رمزية ضد المحو البطيء.
إذا وضعنا الحادث في سياق أوسع، يمكننا قراءته كجزء من سلسلة زمنية طويلة من شد الحبل بين قوى محلية ودولية حول هوية الموقع: منذ اتفاق 1998 بين حكومة الأندلس والكنيسة على خطة صيانة، مروراً بعملية محو كلمة “مسجد”، وصولاً إلى تسجيل المبنى باسم الأسقفية عام 2018 بلا مزايدة ولا مقابل، وكلها محطات تعكس نمطاً واحداً: التملك الرمزي أولاً، والبقاء على قيد السيطرة ثانياً.
وحتى حين تدخلت اليونسكو عام 2021 للتذكير بضرورة الحفاظ على جميع الطبقات الثقافية للموقع، لم يتغير نموذج الإدارة جذرياً. فجاء الحريق في 2025 كاختبار أخير: إما أن يُعاد التفكير في حماية المكان بوصفه تراثاً إنسانياً مشتركاً، أو أن يستمر التعامل معه كأداة في صراع هويات مقنّع.
من منظور سيكولوجي سياسي: ثمة ما هو أعمق من مجرد “جدل حول التسمية” أو “نقاش حول الإدارة”. الأمر يتعلق بمفهوم أوسع للملكية الثقافية، حيث يصبح المكان فضاء للتنافس بين السرديات، وحيث كل طرف يسعى لتثبيت رموزه في الحجر كما في اللغة.
في هذا الصراع، يصبح الحريق حدثا كاشفا، لأنه يجرد الأطراف من أقنعتها، حين يحترق السقف، لا يعود ثمة مجال لتجاهل أن الوقاية كانت غائبة، وأن الاعتبارات الطقسية أو السياسية لم تكن بديلاً عن خطط حماية علمية مستمرة.
إن الذاكرة الجمعية، بخلاف الحجر، لا يمكن ترميمها بسهولة إذا تشوهت. لهذا يصبح الاعتراف بالأصل التاريخي ليس مجرد واجب أكاديمي، بل ضرورة للحفاظ على صدق العلاقة بين البشر وتراثهم.
فلا معنى لترميم الأعمدة إذا كانت اللافتات والكتيبات تخفي تاريخها، ولا جدوى من تنظيف الأقواس إذا كان وعي الزائر يعاد تشكيله ليصدق نصف الحقيقة فقط. والمسجد، مهما حمل من طبقات تاريخية لاحقة، يظل في جوهره مسجدا جامعا من الأندلس، وهذه حقيقة لا تمحوها مذابح أو قاعات عرض أو قرارات إدارية.
لعل الدرس الأكبر من الحريق هو أن حماية التراث ليست عملية تقنية تستدعى عند أول رائحة دخان، بل هي منظومة مستمرة من التخطيط الشفاف والرقابة العامة، تشارك فيها كل الأطراف المعنية، لا أن تحتكر من قبل مؤسسة واحدة مغلقة.
فالتاريخ لا يحرس بالأسوار وحدها، بل بالوعي الذي يعترف به ويحميه. وإذا كانت قرطبة قد شهدت على مر القرون تبدلات العروش واللغات والطقوس، فإن المسجد نفسه بقي، حتى في ظل التحويل إلى كاتدرائية، يحمل بصمات معمارية وروحية لا يمكن محوها إلا بطمس الوعي.
إن الحريق، من هذه الزاوية، لم يكن فقط خسارة مادية محدودة، بل فرصة نادرة لتفكيك النموذج القائم، وإعادة طرح سؤال: لمن ينتمي التراث؟ هل هو ملك للمؤسسة التي تديره، أم للإنسانية التي أدرجته على قائمة تراثها العالمي؟
والإجابة، إذا أردنا أن تكون صادقة، تفرض إعادة النظر في طريقة التعامل مع مثل هذه المعالم، لتصبح أماكن تدار بروح المشاركة والشفافية، لا بروح الحيازة والانغلاق.
في النهاية، يبقى المشهد الرمزي للحريق أقوى من كل التصريحات الرسمية، دخان يتصاعد من أعمدة تحمل ذاكرة ثمانية قرون، ولهب يضيء وجها ظل يخفى عن العلن، ورسالة مكتوبة بلغة الرماد تقول، التاريخ لا يحترق، لكنه قد يختنق إذا ترك في يد من لا يراه إلا مرآة لذاته.
أسلوبك الراقي وقلمك النقدي يحملان رسالة إنسانية وثقافية عميقة في زمن طغت في التفاهة على أقلام الصحفيين والكتاب.
بارك الله فيك أستاذ عبد الحي، فأنت نموذج مضيء في صحافة بلادنا، تذكرنا بصحافة المثقف العضوي على خطى العروي والجابري وإدوارد سعيد، فيما يشكل أسلوبك مدرسة أدبية صحفية قائمة بذاتها