خمس سنوات قضيتها ممثلاً في المجلس البلدي لمدينة كونستانس، شعرت أن واجبي الأخلاقي لا ينتهي بانتهاء ولايتي. بل لعلّ أكثر ما يُلحّ عليَّ الآن هو استخدام صوتي في زمن تتجلى فيه اللامساواة السياسية بأوضح صورها، وتحديدًا حين يتعلّق الأمر بقضيةٍ تأبى الصمت: فلسطين، أو ببلدي المنسيّ — السودان — الذي طواه الإهمال والنسيان.
منذ أكتوبر 2023، تتوالى مشاهد المجازر والمآسي في قطاع غزة، وتستمر معها ازدواجية المعايير الغربية بلا خجل. وفي ألمانيا، تتكرر العبارة الرسمية ذاتها مع كل تصعيد: “لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها.” لكن السؤال الذي يتجاهله الخطاب الرسمي بإصرار هو: هل يملك الفلسطينيون هذا الحق أيضًا؟ وهل يُسمح لهم، ولو بالكلمات، أن يدافعوا عن حقهم في الحياة والكرامة؟
نعم، ما قامت به حماس في السابع من أكتوبر كان هجومًا داميًا طال مدنيين، ولا يمكن لأي ضمير إنساني أن يبرره.
لكن من الظلم، بل من الوقاحة السياسية، اختزال عقود من المعاناة والاحتلال والحصار في يوم واحد، وكأن ما قبل هذا التاريخ لم يكن سوى فراغ زمني. الحقيقة أن فلسطين عاشت، ولا تزال، تحت نظام هيمنة واستيطان وفصل عنصري دامٍ منذ أكثر من 75 عامًا.
وفي هذا السياق، لم تكن مدينة كونستانس سوى صورة مصغرة لهذا المشهد الأكبر. هناك، في قاعة البرلمان البلدي حيث خدمتُ كنائب لمدة خمس سنوات، طُرح قرار لدعم إسرائيل في حربها على غزة. صوت واحد فقط رفض القرار: صوتي. أما بقية الأعضاء، وعددهم تسعة وثلاثون، فقد صوتوا جميعًا بنعم. لم يكن التصويت لحظة نقاش ديمقراطي حر، بل أقرب إلى إملاء أخلاقي مفروض، تُعتبر معارضته فعلًا مريبًا.
ما تلا ذلك كان سيلًا من الاتهامات، ومحاولات شرسة للتشويه، وهجومًا إعلاميًا هدفه كسر الصوت النقدي الوحيد. لم تُسأل الأسئلة الأخلاقية الكبرى: لماذا يُمنع السياسي من قول “لا” حين تُقصف المستشفيات؟ لماذا يصبح الدفاع عن الحياة المدنية فعلًا معاديًا؟ لماذا تُصنّف الإنسانية انتقائية في بلد يدّعي أنه تعلم من دروس تاريخه؟
ما حدث في كونستانس ليس استثناءً، بل هو انعكاسٌ لمناخ سياسي عام في ألمانيا، حيث تم تجريم المواقف المتعاطفة مع الفلسطينيين، وقمع الأصوات المستقلة في الصحافة، وأُقصي الفنانون والناشطون بسبب آرائهم. تحوّلت حرية التعبير إلى امتياز انتقائي، وأصبحت السياسة الخارجية، حتى في مستواها المحلي، رهينة لاعتبارات تاريخية وأيديولوجية تمنع النظر إلى الضحية الفلسطينية بعين المساواة.
وبينما تبنّت ألمانيا موقفًا نشطًا تجاه أوكرانيا بدعوى “الدفاع عن السيادة”، فإنها تقف شبه صامتة أمام الإبادة المتواصلة في غزة، وكأن الضمير الإنساني يُستدعى حسب الجغرافيا والعرق.
ليست المسؤولية التاريخية لألمانيا مبررًا لهذا الصمت، بل يجب أن تكون دافعًا أخلاقيًا لمواجهة الظلم، لا مبررًا للتغاضي عنه.
اليوم، نجد أكثر من عشرين دولة، بينها فرنسا وإسبانيا وأيرلندا والنرويج، تعترف رسميًا بدولة فلسطين، كرسالة متأخرة، لكنها ضرورية، بأن القضية لا تموت بالصمت، وأن الحق في تقرير المصير لا يُلغى بالحصار. أما ألمانيا، فتظل مترددة، متوجسة، تتحصن خلف ماضٍ لم تعترف به إلا في سياقات محددة، بينما تصمّ أذنيها أمام صرخات الفلسطينيين.
وفي الوقت الذي يتحدث فيه المستشار الألماني الحالي، فريدريش ميرتس، عن جسر جوي “إنساني” إلى غزة، ويطرح فكرة تعليق اتفاقيات التبادل مع إسرائيل، فإن هذه الخطوات، رغم أهميتها، تظل أقل بكثير من أن توازي حجم الكارثة. لا يمكن لحاويات الطعام أن تمحو أثر الصواريخ، ولا للمؤتمرات الدبلوماسية أن تمتص دماء الأطفال.
ما نحتاجه ليس فقط خطابًا إنسانيًا، بل سياسة إنسانية. لا يكفي القول بأن “إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها”، بل يجب أن نجرؤ على الاعتراف بأن لفلسطين أيضًا هذا الحق. وأن المقاومة السياسية والمجتمعية والشعبية ليست جريمة، بل تعبير عن إرادة الحياة في وجه القهر.
الصمت الألماني ليس مجرّد غياب بيان إدانة، بل هو بنية كاملة من الإنكار، مبنية على تجاهل الواقع وتشويه الحقيقة. إن ما يُرتكب في غزة ليس “نزاعًا”، بل جريمة. وإن ما يحدث في ألمانيا، حين تُقمَع الأصوات التي تسمي الأشياء بأسمائها، ليس حيادًا، بل عطب أخلاقي.
ألمانيا، بتاريخها، تعرف تمامًا ماذا يعني أن يُحرم شعب من كرامته، وأن يُلاحق بسبب هويته. لهذا، فإن المطلوب اليوم ليس التبرؤ من الماضي، بل الوفاء لدرسه الحقيقي: “أبدًا مرة أخرى” لا يجب أن تكون حكرًا على ذاكرة واحدة، بل وعدًا يُعمم على كل الشعوب.
في ختام هذا المقال، لا أجد أصدق من كلمات الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي:
إذا الشعبُ يومًا أرادَ الحياةَ
فلا بدّ أن يستجيبَ القدرْ
ولا بدَّ لليلِ أن ينجلي
ولا بدَّ للقيدِ أن ينكسرْ
ليس المطلوب من ألمانيا الانحياز، بل الاعتراف. ليس الصمت موقفًا حياديًا، بل مشاركة ضمنية في الجريمة.
وإذا كانت برلين اليوم تقف عند مفترق طريق، فعليها أن تختار: إمّا أن تنحاز إلى القانون الدولي والعدالة، أو أن تظل شاهدة صامتة في سجل المذبحة.