عبدالمجيد بن شاوية
تقديم
يقول زيجمونت باومان في كتابه الثقافة السائلة: ” لا شك أنه في ظل تنافر الأصوات لا يمكن غناء لحن موسيقي في تناغم، وإذا كنت لا تعلم غناء اللحن الأجدر بالغناء من غيره أو كنت لا تعلم طريقة اكتشاف ذلك، فليس أمامك من اختيار إلا أن تغني اللحن الذي تختاره أو أن تعزفه بنفسك، إن كان ذلك باستطاعتك. إن تنافر الأصوات يصم الآذان إلى أبعد الحدود، ولحن موسيقي جديد لن يغير شيئا” (1).
طبعا في ظل صراع المواقف مع استحضار اختلاف المرجعيات والمواقع والخلفيات الذاتية منها والموضوعية قد يعيش الفرد والجماعة والكيانات السياسية والثقافية بعضا من التوترات والهواجس تبعد حتى الموحدين في خانات معينة عن عزف الألحان الجديرة بالغناء، ولا يبقى أمام اختيارات المعزوفات السيمفونية الجميلة والبديعة والدافعة لتوحيد الغناء المراد إلا أن تتوارى خلفا، حينما لا يراد عزف السيمفونية الموسيقية في تناغم تام بين أفراد المجموعة، والتنافر قائم بين من يريدون أداء الغناء في غياب لحن متفق عليه.
تنطبق هذه الخطاطة النظرية على ما تعيشه الكيانات المغاربية من توترات وردود أفعال لا تنم عن وعي فعلي بما يجب أن يكون على ضوء الماهية والهوية الكائنة بحكم المعطى المشترك القائم على قدم وساق، سواء بداخل المؤسسات الرسمية أو في وعي تصورات شرائح عريضة من بنيان كل كائن على حدة، وما كان للاختلافات الواردة في الشق السياسي والأيدويولوجي منذ أن غادر الاستعمار أخر معقل له بالبلدان المغاربية، أن تصبح خلافات حقيقية على أرض الواقع، بعد تسجيل أصوات بنادق المعارك والتضحيات الجسام بالأرواح والدماء فداء للأوطان المغاربية، وما قدمه رواد وأبطال التحرير في كل بلد من البلدان المغاربية، إلى نشدان فكرة وحدة الشعوب والدول في بوتقة واحدة تحمل إسم المغرب الكبير أو اتحاد الدول المغاربية، وهو ما توج بتأسيس اتحاد مغاربي فيما بعد، أطلق عليه إسم “اتحاد المغرب العربي”، بإرادة خمس قيادات مغاربية، سنة 1989، الملك الحسن الثاني (المغرب)، معمر القذافي (ليبيا)، الشاذلي بن جديد (الجزائ)، زين العابدين بنعلي (تونس)، وولد الطايع (موريتانيا).
الاتحاد الذي لم يذكر بصدده إلا ذكراه الفارغة من كل حمولة فعلية منذ أن تأسس إلى يومنا هذا، خاصة في ظل الأوضاع التي تعرفها دوله فيما بينها من قطائع وخلافات وتشجنحات واصطفافات، دون الارتكان والإصطفاف إلى عملية توحيد رؤية حضارية وتاريخية بحسب قواعد وبنود اتفاقية “اتحاد المغرب العربي”، علاوة على ما شاهدته بعضها من قلاقل منذ أن بذرت أول شرارة لما يطلق عليه ب “الربيع العربي”، فكانت تونس أول مسرح له أواخر 2010 وبداية 2011، ليشمل كل دول العالم العربي، دون استثناءات، مما كان له تداعيات خطيرة هزت أركان أنظمة سياسية عربية بذاتها، من بينها تونس بنعلي ومصر مبارك وليبيا القذافي.. ليدخل العالم العربي في دوامة من الاضطرابات والتوترات والأزمات التي مازالت تقض مضاجعه لحد الساعة دون مخارج ناجعة لتجاوز مرحلة الأزمة بكل مخاطرها ومخاوفها السياسية والأيديولوجية والجيوبوليتيكية والتاريخية والحضارية.
وحدة الشعوب المغاربية لإنهاء الإستعمار الغاشم
لم تدخر الشعوب المغاربية وقياداتها الجهادية جهدا منذ أن دخل الاستعمار الأرض المغاربية ووطأت أقدامه أول شبر من جغرافيته، مخترقا كل فضاءاتها المكانية والسياسية والثقافية والاجتماعية والتراثية، الرامي إلى طمس وضرب الهوية المغاربية العربية والإسلامية، في محاولة منها دحره وإرباك خططه الاستعمارية وخلق متاعب له بتكثيف نضالاتها الوطنية هنا وهناك، رغم تقدمه العسكري وعلو كعبه في كل الحقول والمجالات الحضارية، فكرا وثقافة وعلما وسياسة وإدارة..
حيث بسط الاستعمار نفوذه على كل الأوطان المغاربية، فاستغل كل خيراتها وعمل على نهبها غصبا على إرادات شعوبها، ومارس كل أشكال القهر والتنكيل بكل من سولت له نفسه مواجهته سواء أكانوا أفرادا أو قبائل، أو حركات جهادية منظمة، مما جعل الشعوب المغاربية تستنهض هممها وعزائمها لتعمل على خلق حركات تحررية بكل منها، تقودها قيادات استرخست حيواتها في سبيل الانعتاق من ربقته المذلة لكرامة الأهالي وكسر القيود والأغلال المقيدة لحريتها وعدالة قضيتها، وإنهاء عهد الحجر والحماية والاستعمار الذي يعثر نهضتها التاريخية والحضارية، حاملة معها مشاريع استقلالها وشق طريقها نحو تحقيق أهدافها الحضارية لبناء دول وشعوب ترقى وتزدهر وتتقدم نحو أعلى مراتب الريادة الحضارية في سلم الأمم والحضارات الأخرى.
فكان لمواجهة أيديولوجية الاستعمار في كل من المغرب والجزائر وتونس ضرورة خلق رؤية وتصور مشتركين بين كل التيارات والأيديولوجيات والزعامات رغم اختلاف مرجيعاتها ومنطلقاتها، مستلهمة كل الأفكار التنويرية لاستنهاض الشعوب في مقاومتها للسلطات الاستعمارية، دفاعا عن الهوية والوطن ومقومات الانتماء العربي والإسلامي.. سواء بمرجعياتها الدينية أو الليبرالية أو بمزيج من الأفكار من هنا وهناك – خاصة وأن العالم بداية العقد الأول والثاني من القرن العشرين قد تشكل من قوى متناحرة فيما بينها ومتغيرات على الساحة العالمية (الحرب العالمية الأولى، الثورة البولشيفية الروسية..).
وكذا ما عرف من حركات سياسية وأيديولوجية وبزوغ القضية الفلسطينية بالشرق الغربي الإسلامي، مما خلق معه تقاطبات فكرية وسياسية وأيدولوجية، زحزح البنيات الفكرية والسياسية والثقافية في كل أقطار العالم – صدا لكل مخرجات أيديولوجية الاستعمار السياسية والثقافية والدينية، بعدة ثقافية رمزية لما كانت أيديولوجيا الاستعمار هي ضرب عمق الهوية المغاربية، في مقوماتها (الدينية، اللغوية، الثقافية) فلم يكن بمقدور الحركات الوطنية المغاربية إلا أن تعتمد السلاح نفسه في مجابهة القوى الاستعمارية بمعنى محاولة استخدام المجال الرمزي نفسه (.) من دين ولغة وتراث وتاريخ مشترك، في بناء توجهاتها السياسية المناهضة للاستعمار، فكان محور المقاومة والنضال الوطني ضد غطرسة الاستعمار، هو إثارة العواطف وتوتير الوجدان المغاربي، واستنهاض الوعي تجاه القيم الرمزية للشخصية المغاربية، وكانت هذه هي القاعدة التي تأسست عليها خطابات النخب القائدة للعمل الوطني المغاربي.
إن الدفاع عن الهوية قد شكل الأساس الأيديولوجي والنضالي الذي على أرضيته تشكلت النواة الأولى للحركات الوطنية بالدول الثلاث مدافعة أولا عن سيادتها الوطنية ومطالبة بالإصلاح في إطار الدولة الاستعمارية وداعية إلى استحضار تراثها المشترك وانتمائها للمشروعية العربية والإسلامية، وذلك من أجل بلورة وعي جماعي بضرورة التنسيق والوحدة لمقاومة الآخر (الاستعمار)، وصيانة الأنا “الهوية المغاربية” (2).
كان من آثار سياسة الاستعمار أن شعر المغاربيون بالظلم والإذلال.. مما دفعهم إلى نهج ردود أفعال تمثلت في أشكال احتجاجية ورفع شعار المقاومة، في كل بلد على حدة، وتنسيق الجهود والخطط بين حركات التحرر المغاربية في جبهات عدة، سياسيا وعسكريا، ثقافيا وأيدولوجيا، وخلق شبكات سرية وخلايا عملت على إرساء دعائم النضال والجهاد في أوساط الأهالي ضد المستعمر، وذلك بتصعيد نفس المقاومة بكل تياراتها وأيديولوجياتها، حيث لم تعد جبهاتها تطالب بالإصلاحات الإدارية والسياسية..، ولا بالمساواة بين مواطنيه وأهالي البلدان المغاربية ، في عرائض تقدم لسلطات الاحتلال، بل تم اعتماد خطط إنهاء الاستعمار وعهود الحجر والحماية والمطالبة بالاستقلال، وهكذا ثم تثوير الوعي المغاربي الوطني والقومي من مرحلة إلى أخرى، في كل الأوساط المغاربية، نخبا وجماهيريا، مما حذا بالسلطات الإستعمارية إلى فتح قنوات التواصل مع القيادات المغاربية لدراسة الخطوات التالية لوضع اللبنات الأساسية لفك الارتباط بينها وبين مستعمراتها المغاربية.
حيث عمل العقل الاستعماري على ترتيب وتثبيت ونسج بنود الاتفاقات والمعاهدات الاستقلالية مع كل بلد على حدة، وقد يشار إلى أن العقل المغاربي التحرري الاستقلالي لم يتفطن إلى كل نقط دروب المفاوضات بدهاليز السياسة والمناورات التفاوضية الاستراتيجية، فدخل إلى معتركاتها من باب الحماسة ونشوة الانتصار المتخيلة، ففقد جانبا مهما من الحذق والمهارة والفهم الدقيق للعقل الاستعماري في جانب عريض من خلفياته واستراتيجياته، مما جعله يفقد أهم عنصر في أبعاد الاتفاقيات المبرمة، ألا وهو تبصر أهداف وخطط الاستعمار المستقبلية في علاقاته بالدول والشعوب المغاربية التي ستحصل على استقلالاتها بمجرد التوقيع عليها، لذلك بقيت بقية من تلك الاتفاقيات المبرمة لإنهاء الاستعمار، يكتنفها الغموض وبعض من شكوك في مخرجات السلطات الاستعمارية، التي تطرح بصددها عدة أسئلة في مضامين البنود المتفق عليها في هذه المعاهدات الاستقلالية.
أنظمة الدول المغاربية والسيمفونية المغاربية المفقودة سياسيا
لقد استبشرت الشعوب المغاربية خيرا في بعض من منعطفات توجهات الأنظمة السياسية المغاربية، خاصة لحظة إنشاء اتحاد المغرب العربي عند انعقاد القمة التأسيسية بمراكش 1989، وأملت في أن تنال الحظوة التاريخية والحضارية في هرم التكتلات الإقليمية والتحالفات الدولية، تجسيدا لتطلعات وأحلام روادها والمبشرين الأوائل من أجيالها السابقة سواء بداخل صفوف حركات التحرر الوطنية أو بعد حصول أوطانها على استقلالاتها من ربقة الاستعمار، بل عقدت آمالا عريضة من وراء هذه المبادرة التاريخية بين قادتها الذين عملوا على إنشاء هذا الكيان الإقليمي الموحد لإرادات الدول والشعوب معا، والتي أذابت جزء من جبل الجليد المتصلب من خلفيات وجدليات سلبية فيما بين عناصر قياداته وأنظمته، فأزاحت بعضا من المواقف في طريق بناء تكتل إقليميي على أمل أن تنعم شعوبه بالرفاه والتقدم والازدهار، إلا أن الطبقات الخفية في جوانب من السياسة والأيديولوجيا، والتي لم يحسم فيها الرأي السديد والموقف البناء من قضايا معينة، ستقف حجر عثرة أمام تطور هذا الكيان نحو الأهداف والغايات من هذا الاتحاد المنشأ، الأمر الذي جعله اتحادا شبيه جسد دون روح، تنعدم فيه الروح البناءة على خلفية انعدام الإرادة الفعلية والقوية للمزيد من إبداع وخلق الفرص الوحدوية الشاملة بين دوله وأنظمته وشعوبه، والعمل، أيضا، على التخطيط الممنهج للسياسات النظامية بعقل سياسي فعال مستحضرا مقومات المشترك المغاربي وتحيينها وترجمتها فعليا على أرض الواقع، لا أن تبقى في غياهب المجرد وبأشكال صورية في أذهان ومخيلة المغاربيين عموما، الأمر الذي يدفعنا لنتساءل عن المعوقات والأعطاب بصدد تعثر مسار هذا المولود الإقليمي المغاربي، وكيف أن الحلم المغاربي الوحدوي كتكتل إقليمي تبخر في ردهات الأنظمة السياسية المغاربية؟.
هناك من يشير إلى أسباب ذاتية وأخرى موضوعية في تعثر المشروع المغاربي، حيث يرجع عبد الجبار الراشيدي هذا التعثر إلى هذه الأسباب:
السبب الذاتي: بعد تحقيق الاستقلال والحرية وجلاء الاستعمار الفرنسي والإسباني، انشغلت الدول المغاربية بمشروع بناء الدولة الوطنية، والنهوض بأسس الاقتصاد الوطني، ومغربة الإدارة والقضاء، وتأميم المنشآت والشركات الكبرى، وإطلاق الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاهتمام ببناء نموذج الحكم، وإقامة دولة المؤسسات.وبالتالي، تم إعطاء الأولوية لبناء مشروع الدولة الوطنية على مشروع الوحدة المغاربية، وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى دول خرجت منهكة من تجربة مريرة للاستعمار البغيض، يلزمها معه تأهيل البلاد على جميع المستويات.
السبب الموضوعي: ويتجلى في الاختيارات الكبرى لدول المغرب الكبير في ظل ظرفية عالمية ستتسم بالصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، بين الإيديولوجية الاشتراكية والأيديولوجية الرأسمالية.
لقد اختارت بعض هذه الدول التموقع في المعسكر الاشتراكي، بينما اختارت أخرى الانضمام إلى المعسكر الرأسمالي، ووجدت نفسها على طرفي نقيض من الناحية الإيديولوجية والاختيارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وهو ما كان له انعكاس على مستوى مشروع الوحدة والاندماج الاقتصادي.
السبب الموضوعي الآخر: هو الصراع الذي نشأ منذ بداية الستينيات من القرن الماضي بين المغرب والجزائر، بسبب مشكل الحدود الذي تركه الاستعمار، بدءا بحرب الرمال سنة 1963 وبعدها حرب أمغالا في السبعينيات بعد استرجاع المغرب لصحرائه المغتصبة من طرف الاستعمار الإسباني بمقتضى اتفاقية مدريد وواقع المسيرة الخضراء.
هذه الحقوق الشرعية للمغرب في أراضيه الموحدة عاكستها بقوة الجزائر التي شجعت الطرح الانفصالي الذي تقوده جبهة “البوليساريو” والذي ما زال مستمرا إلى اليوم مع كامل الأسف.(3).
وهناك من يرجعها إلى معوقات سياسية ومؤسساتية “إذ رغم تأكيد الدول الأعضاء على أن الاتحاد المغاربي يبقى “خياراً إستراتيجياً” فإنها تتصرف على العكس من ذلك تماما, فسلوكها السياسي لا يزال حبيس الرؤى القطرية الضيقة وتصورات السيادة التقليدية التي تجاوزها الزمن” (4) وأخرى مؤسساتية تتعلق بتعدد معوقاته المؤسساتية الناجمة عن الطبيعة المتخلفة للمعاهدة المؤسسة له مما جعله عرضة لأي خلاف سياسي بين الدول الأعضاء، إذ يبدو جلياً أن الريبة فيما بين الدول الأعضاء جعلتها تتوخى الحذر كما أن عقدة السيادة حالت دون رقي هذه المعاهدة إلى مستوى مشروع تكاملي إقليمي.
ولعل الدليل على هذه الريبة المتبادلة وعقدة السيادة وأيضاً غياب الرؤية الإستراتيجية والخبرة في مجال التكامل الإقليمي تكمن في تبني قاعدة الإجماع في اتخاذ القرارات (المادة السادسة) (5).
إضافة إلى طبيعة الخلافات الجزائرية المغربية حيث “تعد معوقات تطبيع العلاقات الجزائرية المغربية أهم وأبرز معوقات العمل المغاربي المشترك، إذ من غير الممكن بناء المغرب العربي بدون الجزائر أو بدون المغرب بحكم ثقلهما السياسي والاقتصادي فهما الفاعلان الأكثر نفوذاً في المنطقة. وعليه فمعوقات التطبيع الجزائري المغربي أصبحت عملياً معوقات العمل المغاربي المشترك، وهذه المعوقات الثنائية ذات الثقل المتعدد الأطراف يمكن أن تلخص في النقاط التالية: الخلاف حول التعاطي مع الملف الإسلامي، والقضايا العالقة لإعادة فتح الحدود، ونزاع الصحراء” (6). تلك الأسباب والمعوقات تنضاف إليها أسباب أخرى، منها ما يرتبط بالعملية السياسية داخل كل قطر مغاربي على حدة، التي تفتقد إلى مقومات الديمقراطية، وطبيعة الوعي السياسي لدى الفرد المغاربي والمجتمع المدني، وما يتعلق كذلك بالبنيات الثقافية والفكرية والأيديولوجية والسياسية، وأخرى تتعلق بطبيعة اقتصاديات الدول المغاربية، ومبادلات ميزانها التجاري، علاوة على علاقاتها بالدول الأخرى سواء منها الأوربية أو غيرها، في خاناتها التجارية والاقتصادية.. ناهينا عن المخاضات والأزمات الموجعة التي تعرفها المنطقة في هذا الظرف بالذات، لا سيما مرحلة ما أطلق عليه بـ”الربيع العربي”، حيث لازال الملف الليبي يرواح مكانه ولم يخرج من شرنقة أزمته بعد الإطاحة بحكم القذافي، وكذا الاصطفافات السياسية والأيديولوجية للأنظمة المغاربية وما خلقته من توترات وحساسيات بينها، في علاقاتها بالقوى الإقليمية والدولية، وهلم جرا من الأسباب والمعيقات المعطلة للوحدة المغاربية الفعلية.
خاتمة
إن فكرة الوحدة المغاربية لم تكن وليدة لحظة عابرة ونزوة عاطفية، بل كانت فكرة متجذرة في أذهان روادها – انطلاقا من مراحل ضاربة في العمق التاريخي والحضاري للكيانات المغاربية (مرحلة حكم المرابطين والموحدين..) – فانتشرت في الأوساط المغاربية على اختلاف مجالاتها، بحكم الارتباطات القوية الجامعة لمخاييل المغاربيين، لا سيما بعد الاستقلال، المرحلة التي بقيت تحتفظ بذاكرة تاريخية قوية في أوساط روادها المنتمين في غالبيتهم إلى الحركات التحررية المغاربية، الذين عملوا على بصم محطات من التشاور وعقد اللقاءات تأكيدا على تشكيل لحمة مغاربية موحدة “إن الوعي الإقليمي بوحدة المغرب العربي بدأ يتبلور في إطار الحركات الوطنية المغاربية منذ مطلع القرن العشرين عندما بدأ مفهوم المغرب العربي يتكوّن سياسياً، إذ دأبت حركات التحرر في تونس والجزائر والمغرب على التأكيد على البعد المغاربي لما بعد الاستقلال” (7).
فمؤتمر المغرب العربي بالقاهرة فبراير / شباط 1947، كمحطة تأسيسية لتكتل ووحدة مغاربية، وما قبله من مبادرات ونزوعات وحدوية بين رجالات الحركات التحررية المغاربية، قد سطر الخطوط العريضة لتكل مغاربي وحدوي إقليمي، بغية تحقيق تطلعات وأماني الشعوب المغاربية، مستقبلا، في الحرية والاستقلال والتقدم والرفاه والوحدة، إلا أن اللحظة التاريخية في مسار الوعي السياسي المغاربي، تجسدت في انقعاد مؤتمر طنجة يوم 26 أبريل نيسان 1958 بالمغرب، ضم كل من حزب الاستقلال المغربي وجبهة التحرير الجزائرية وحزب الدستور التونسي.
ومن المفارقات أن تنظيم مؤتمر طنجة لسنة 1958 تزامن مع حدث إبرام ست دول أوروبية (اتفاقية الفحم والصلب، بروما) وشكلت اللبنة الأولى للعمل الأوروبي المشترك والذي تواصل إلى أن تحقق حلم الاتحاد الأوروبي وتم تجاوز جراح الحروب الأوروبية والعالمية، وتناسي الأحقاد وصراعات الحدود وتم توحد العملة، وتنسيق مختلف المواقف السياسة والاقتصادية والأمنية والبيئية. وبقي الحلم المغاربي مؤجلا.
ولعل هذه المفارقة تدعونا إلى إعادة صياغة وطرح سؤال الذات والمآل والبحث عن أمل في المستقبل عل جراحنا تندمل وتزول التفرقة وتسقط الحواجز والحدود ويتحرر الإنسان المغاربي من مكر السياسة وسطوة الواقع، ومن منطق افتعال الأزمات وإذكاء الفتن والصراعات التي تؤجل الحلم المغاربي في الوحدة والتكتل” ( 8).
المراجع:
1- باومان، زيجمونت، الثقافة السائلة، سلسلة السيولة، المجلد الأول، ترجمة حجاج أبو جبر، مراجعة هبة رؤوف عزت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2019، ص 43.
2 – بن صغير، عبد العظيم، إيديولوجيا مناهضة الاستعمار في تاريخ الحركات الوطنية المغاربية، مجلة العلوم الإنسانية، جامعة محمد خيضر، كلية الحقوق والعلوم السياسية، بسكرة، العدد 18، مارس 2010، ص ( 157 – 166).
3 – الرشيدي، عبد الجبار، الفكرة الوحدوية عند الحركة الوطنية المغاربية،
موقع هسبريس، hespress
4 – بن عتنر، عبد النور، الاتحاد المغاربي.. بين الافتراض والواقع، موقع الجزيرة نت،
6 – نفس المرجع،
7 – نفس المرجع،
8 – الرشيدي، عبد الجبار، الفكرة الوحدوية عند الحركة الوطنية المغاربية، هسبريس.
* كاتب مغربي