كشفت صحيفة “لا كروا” الفرنسية في تقرير ميداني صادم من إسطنبول عن تصاعد مقلق في ظاهرة عرض الشباب الأتراك بيع كليتهم مقابل مبالغ زهيدة، في مشهد يعكس الانحدار الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه تركيا منذ سنوات، وتحوّل الفقر إلى بوابة مفتوحة أمام الاتجار بالبشر والأعضاء.
ففي الوقت الذي تُسجّل فيه تركيا المرتبة الأولى عالمياً في عمليات زراعة الكلى من متبرعين أحياء، بحسب أرقام المرصد العالمي للتبرع وزراعة الأعضاء، بات من الصعب الفصل بين ما هو قانوني وما يتم في الخفاء. التقرير الأوروبي الأخير أشار صراحة إلى تركيا كأحد المراكز العالمية للاتجار بالأعضاء البشرية، وهو ما أكدته “لا كروا” استناداً إلى تحقيقاتها في العاصمة الاقتصادية للبلاد.
ورغم تسجيل معدلات تضخم أقل من 40% في فبراير 2025، بعد أن بلغت 85% في أواخر 2022، إلا أن هذا التراجع لم ينعكس إيجاباً على الوضع المعيشي لشرائح واسعة من السكان، خاصة الشباب. فوفقًا لأرقام معهد الإحصاء التركي، فإن أكثر من 23% من الأتراك الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً لا يدرسون ولا يعملون، في حين يقول مركز أبحاث تابع لاتحاد النقابات إن معدل بطالة الشباب الحقيقي يقارب 37.5%، بينما تشير الأرقام الرسمية إلى 15% فقط.
في خضم هذا الواقع القاتم، تحوّلت تقييمات “غوغل” الخاصة بمؤسسة الكلى التركية إلى فضاء إعلانات غير رسمية لبيع الأعضاء، بدل أن تكون منصّة لتقييم الخدمات الصحية. إذ رُصد نشر أكثر من 100 إعلان في الأسابيع الأخيرة فقط، بعضها صادر عن قُصّر، مثل الشاب محمد أمين بويوخان البالغ 17 عاماً، الذي كتب: “أبيع كليتي من فصيلة الدم O+. سأبلغ 18 هذا العام. لا أعاني من أي مشاكل صحية. أبيعها بسبب ضائقة مالية”. بعد يوم واحد، أقدم على الانتحار. وعلى حسابه في إنستغرام، دوّن أحباؤه تاريخ وفاته، مضيفين عبارة: “الصمت أقوى صرخة”، إلى جانب رمز زهرة ذابلة.
المأساة لم تكن استثنائية، بل تعكس بحسب مراسل الصحيفة توماس غيشارد، يأس جيل بأكمله يتخبط في العجز والديون، ويرى في جسده رأسمالاً أخيراً للنجاة. “يمكن العيش بكلية واحدة، لكن لا يمكن العيش بالديون”، يقول أحد الشبان الذين حاولوا عرض كليتهم.
في السياق ذاته، أوضح تيمور إرك، رئيس مؤسسة الكلى التركية، أن المؤسسة باتت تتلقى يومياً حوالي عشر مكالمات من أشخاص يرغبون في بيع كليتهم. ورغم محاولاته الدائمة لتحذيرهم من الطابع غير القانوني والخطر الكبير لهذا السلوك، إلا أنّه يعترف بأن الظاهرة “تتفاقم هذا العام بشكل لم يسبق له مثيل”.
وأضاف أن بعض الشباب يعرضون بيع كليتهم من أجل شراء دراجة نارية أو هاتف ذكي، ما يُظهر انحرافاً خطيراً في سلّم الأولويات، وتراجعاً مدوّياً في مستوى الوعي بقيمة الجسد والحياة.
ورغم التهديدات القانونية، كشف أحد الشبان للصحيفة أنه “إذا لم يجب أحد على إعلانه”، فإنه سيتوجه إلى المافيا، التي تُقدّر الكلية الواحدة لديها ما بين 4000 و10000 يورو. وعن المخاطر؟ قال ببساطة: “لا تهم.. لقد سئمت العيش”.
مؤشر خطير آخر كشفته “لا كروا” يعود إلى تفكيك شبكة سرّية لزراعة الكلى سنة 2023 داخل أحد المستشفيات الخاصة بإسطنبول، أسفرت عن اعتقال عدد من الأشخاص، من بينهم أجانب، في تأكيد إضافي على انزلاق بعض المؤسسات الصحية إلى سوق سوداء تُديرها شبكات منظمة.
التقرير، وإن بدا في ظاهره عرضاً لحالة طارئة، إلا أنّه يسلط الضوء على أزمة أعمق بكثير وفق مراقبون، انهيار الثقة في المستقبل، وفقدان الأمل في إصلاح اقتصادي، وغياب العدالة الاجتماعية.
وتبقى النتيجة الأكثر إيلاماً أنّ جسد الإنسان، في تركيا 2025، لم يعد حرماً مصوناً بل سلعة قابلة للتفاوض.. حتى إشعار آخر.