إن المتأمل في السياق الراهن لا يحتاج إلى كثير جهد ليدرك أن ما تنشره بعض المنابر الإعلامية الغربية من قبيل “لوموند”حول المؤسسة الملكية في المغرب ليس بريئا ولا ينطلق من منطق صحافة التحقيق الحر، بل هو أقرب إلى عملية مقننة في هندسة التشويه، تهدف إلى زعزعة صورة رمزية لمؤسسة مركزية في التاريخ السياسي المغربي.
مؤسسة تختزل الدولة والهوية والشرعية في آن واحد، وهذه الحملات لم تأت منفصلة عن محيطها بل متماهية مع غرف مظلمة تتقاطع فيها مصالح أجهزة معادية، وعلى رأسها المخابرات الجزائرية التي استثمرت طويلا في تسويق صورة قاتمة عن المغرب داخل مراكز النفوذ الأوروبية، وهو ما يتجلى في ما سمي بتسريبات “جبروت” التي سرعان ما تحولت إلى مادة خام لأقلام مأجورة تسعى إلى إقناع الرأي العام الغربي بأن الدولة المغربية قائمة على الظل لا على النور، وعلى التآمر لا على البناء، وعلى القهر لا على الشرعية.
لكن ما يكشف زيف هذه المزاعم ليس فقط حجم التناقضات التي تطبعها، بل كونها تنطلق من تصور مسبق يعتبر المغرب امتداداً لنظرية “الدولة المخترقة” وكأن مؤسساته ليست إلا واجهة لمصالح خفية، في حين أن التجربة التاريخية للمغرب منذ قرون قائمة على التوازن بين الشرعية الروحية والسياسية، وعلى صمود المؤسسة الملكية أمام كل الهزات الإقليمية والدولية، وهو ما لم تستطع الأنظمة العسكرية المجاورة أن توفره لشعوبها، فكان الحل بالنسبة لها هو الاستثمار في الدعاية السوداء ضد الجار الغربي الذي تحول إلى عقدة تاريخية وإلى مرآة تكشف هشاشة مشروعها السياسي.
إن تقرير لوموند الأخير ليس حدثا معزولا بل جزء من منظومة متواصلة من محاولات النيل من هيبة الدولة المغربية ومؤسساتها، غير أن ما يضاعف من خطورة هذه الحملات ليس فقط صدورها من الخارج بل هشاشة الجبهة الداخلية التي يفترض أن تتصدى لها، وهنا نصل إلى معضلة الإعلام الرسمي المغربي الذي يديره أشخاص لا يمتلكون لا الكفاءة الفكرية ولا الوعي الاستراتيجي ولا القدرة على مواجهة الحملات المضادة.
إذ ظل الإعلام الرسمي رهين خطاب تقريري جامد لا يحرك ساكنا في الرأي العام، في وقت تحول فيه الإعلام الرقمي العابر للحدود إلى ساحة رئيسية لتشكيل الصورة.. لم يستطع الإعلام الرسمي أن يطور أدوات اشتباك ذكية قادرة على تفكيك الخطاب المعادي، بل اكتفى بالارتجال والتكرار والتقوقع في لغة خشبية لم تعد تقنع حتى الجمهور الداخلي، فما بالك بمخاطبة الرأي العام الدولي.
والنتيجة أننا أمام فراغ استراتيجي كبير يترك المجال مفتوحاً أمام أصوات مشبوهة لاحتكار رواية الأحداث، في حين أن المؤسسات التي من المفروض أن تكون في طليعة حماية الرمزية الوطنية عاجزة عن إنتاج خطاب مؤثر، لأن من يشرفون عليها غارقون في منطق الزبونية والمناصب الريعية أكثر من انشغالهم بالرهانات الكبرى.
وإذا كان الإعلام الرسمي في المغرب قد فشل في التصدي لهذه الحملات، فإن المسؤولية لا تقف عنده فقط، بل تتجاوزه إلى غياب إرادة سياسية واضحة في بناء مشروع إعلامي وطني بديل، مشروع ينهض على المهنية والجدية وعلى استقطاب الطاقات الفكرية والبحثية، بدل الإصرار على دعم إعلام المجاري والتفاهة الذي يملأ الفراغ بمحتوى سطحي لا يضيف شيئاً إلا تكريس الهشاشة الثقافية، ومن ثم المساهمة الموضوعية في إضعاف مناعة الجبهة الداخلية أمام الاختراقات.
كيف يمكن لدولة تسعى إلى تثبيت مكانتها الجيوسياسية في عالم متوتر أن تغفل عن سلاح الإعلام الذي أصبح أخطر من المدافع؟ كيف يمكن لمؤسساتنا أن تطمئن وهي ترى أن الخطاب الموجه إلى الداخل يغلب عليه التهريج، والخطاب الموجه إلى الخارج غائب تماماً أو مبتور؟.
إن هذا الوضع يجعلنا أمام صورة عبثية.. خصوم المغرب يستثمرون ملايين الدولارات في حملات منظمة، بينما نحن لا نزال نتخبط في نقاش عقيم حول من يحق له أن يظهر على شاشة التلفزيون أو من يكتب افتتاحية جريدة رسمية.
لقد آن الأوان لمراجعة جذرية لمنظومة الإعلام المغربي الرسمي والوصي، فلا يكفي أن نتحدث عن “إعلام وطني” إذا كان القائمون عليه لا يمتلكون رؤية وطنية أصلا، ولا يكفي أن نرفع شعار المهنية إذا كانت الكفاءة غائبة ومواقع القرار محتكرة من طرف وجوه فقدت كل مصداقية.
المطلوب اليوم ليس تبرير الأخطاء ولا الاكتفاء بردود انفعالية، بل صياغة استراتيجية إعلامية شاملة ترتكز على الدفاع عن القضايا الوطنية الكبرى بعمق فكري وبخطاب متعدد اللغات وقادر على الوصول إلى مراكز التأثير العالمية.
إن مواجهة الدعاية المعادية لا تتم بالارتجال ولا بالمسرحيات الإعلامية السطحية، بل ببناء منظومة متكاملة من القنوات والوسائط والكوادر التي تعي أن الإعلام اليوم ليس مجرد خبر وصورة بل هو سلاح نفسي وسياسي ومجال للصراع على العقول والرموز.
وإذا كان المغرب قد نجح في بناء مؤسسات صلبة في مجالات الأمن والدبلوماسية والتنمية، فإن المعركة الإعلامية ما تزال الحلقة الأضعف، وهو ما يشكل تهديداً لمصداقية هذه المؤسسات أمام الحملات المتواصلة.
لذلك فإن الدفاع عن صورة المغرب ومؤسساته لا يمكن أن يترك للصدفة أو للأشخاص غير المؤهلين، بل ينبغي أن يكون ضمن أولويات الدولة، عبر تمكين الإعلام الجاد من الموارد اللازمة، وتشجيع البحث والتحليل الرصين، وتكوين جيل جديد من الصحافيين القادرين على الاشتباك مع الخطاب الخارجي بأدواته وأساليبه..
إن التاريخ يعلمنا أن الدول التي أهملت سلاح الكلمة دفعت الثمن غالياً، وأن المعارك التي تخسرها الأمم ليست دوماً في ميادين القتال، بل أحيانا في ساحات الرأي العام حين يترك الخصم يصوغ الرواية وحده.
وفي هذا السياق فإن محاربة التفاهة ليست ترفا فكرياً بل شرطا من شروط السيادة، وامتلاك إعلام محترف ليس مسألة ثانوية بل جزء من معادلة الأمن القومي.
وفي المحصلة يبقى ما قاله الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي أصدق تعبير عن واقعنا: “الأزمة تكمن في أن القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر كل أشكال الوحوش”.