فرنسا: عبد الخالق حسيني
اختزال ستةٍ وعشرين عاماً من الحكم في صورٍ متفرّقة ــ ملك جالس في صلاة أو ممتطٍ “جيت سكي” ــ لا يُعد تحليلاً سياسياً، بل قراءة عابرة كزَبَد البحر تُقصي عمق التاريخ وتغفل جوهر المعادلة المغربية. فالملكية في المغرب ليست لغزاً غامضاً ولا مشهداً مُصطنعاً، بل مؤسسة راسخة، العمود الفقري لمجتمع كامل، وشريان حياة لأمةٍ متجددة، قوة استقرارٍ إقليمي، وأفقٌ مشترك يربط بين ذاكرة الماضي ورؤية المستقبل.
هناك من يتوهّم الغروب، لكن المغرب لا يجيب إلا بفجرٍ يتجدّد كل يوم: فجر أمة تسير واثقة، يقودها ملكها ويحتضنها شعبها.
بعض العناوين، مهما بدت طنانة في ظاهرها، تكشف هواجس كتّابها أكثر مما تصف حقيقة الأوطان. صحيفة لوموند تجرّأت وكتبت: «أجواء نهاية حكم» عن الملك محمد السادس.
لكن، ما الذي يبقى وراء هذا النفس الدرامي؟ مجرد لقطات متفرّقة جُمعت على عجل ــ صورة في صلاة وأخرى على “جيت سكي” ــ لنسج لوحة زائفة عن مستقبل المغرب. هذه ليست صحافة تحقيق، بل مسرح ظلالٍ بارد تُعرض فيه الأوهام بدل الحقائق.
الملكية في المغرب ليست ديكوراً يُراقَب بالصور، بل ركيزة وجود وذاكرة حيّة لأمة، القلب النابض لعهدٍ ممتد يوحّد الملك بشعبه منذ أكثر من اثني عشر قرناً.
نحن أمام أمة ضاربة في عمق التاريخ، جذورها ثابتة كجذوع الزيتون، سبقت قيام كثير من الدول الأوروبية، ولا تزال إلى اليوم إحدى أعرق الاستمراريات السياسية في العالم.
الملك في المغرب ليس شخصية معزولة، بل نَفَس الأمة ورمز استمرارها. في المخيال الشعبي كما في الممارسة السياسية، لا وجود لفصلٍ بين العرش والشعب: إنهما روح واحدة ونَفَس واحد.
ومن يقترب من هذا الرابط، إنما يقترب من الأمة ذاتها. إنه خطّ أحمر ساطع لا يمكن تجاوزه مهما تجاهلته بعض القراءات الوافدة.
«نهاية حكم»، يردّد البعض وكأنهم لم يروا ما تحقق أمام أعينهم. فمنذ 1999، والمغرب يكتب فصلاً بعد آخر من قصة تحوّل عميق، بعيداً عن الشعارات الجوفاء، وراسخاً في إنجازات ملموسة: طرقات تشقّ الجبال والصحاري كأنها شرايين المستقبل، موانئ جعلت من طنجة المتوسط بوابة عالمية، مطارات تربط المملكة بالقارات، وقطار فائق السرعة يختصر الزمن بين مدنها. لقد شُيّدت البنية التحتية الأكثر حداثة في إفريقيا، شاهدة على بلدٍ يخطو بثقة نحو المستقبل.
لكن التنمية في المغرب ليست حجارةً وإسمنتاً فقط. فمدوّنة الأسرة أعيدت صياغتها لتواكب العصر، العدالة الانتقالية أُطلقت كمسار رائد في العالم العربي، التغطية الصحية توسّعت لتشمل الملايين، والسياسة الطاقية تحوّلت إلى شمس ثانية في قلب الصحراء، من «نور ورززات» إلى مشاريع الرياح والهيدروجين الأخضر.
أما على المستوى الاقتصادي، فقد صعد المغرب إلى مصافّ القوى الصناعية الناشئة: سيارات تُصدَّر إلى أوروبا وإفريقيا، أجزاء طائرات تُصنّع في مصانع وطنية، وسواعد مغربية تُدخل البلاد إلى سلاسل الإنتاج العالمية، إضافة إلى فلاحة ذكية ورقمنة متسارعة. إنها صورة بلد لم يعد تابعاً، بل صانعاً لمساره.
كلما حاول البعض تشويه صورة المغرب، يُشهر ملف الصحراء كورقة يائسة في معركة خاسرة. لكن الحقائق أقوى من الأوهام: الصحراء ليست فرضية تُناقش، بل يقين تاريخي وقانوني وشعبي، مختوم بالبيعة وأمانة انتقلت عبر القرون.
واليوم، لم تعد هذه الحقيقة محصورة في الذاكرة، بل تجسّدت في الواقع: عشرات القنصليات في العيون والداخلة، مبادرة الحكم الذاتي التي وصفتها القوى الكبرى بالجدّية والمصداقية، ودعم متزايد من إفريقيا وأوروبا وأميركا. إنها شواهد سياسية وقانونية راسخة، لا رجعة فيها.
ليُفهم جيداً: الصحراء ليست بنداً في أجندة دبلوماسية، بل القلب النابض لسيادة المغرب. وكل محاولة للتشكيك فيها ليست سوى ظلّ عابر على جدار صلب من الحقيقة.
لوموند يمكن أن تلمّح كما تشاء، لكنها لن تغيّر من الواقع شيئاً، ولن تمسّ إخلاص الشعب لقضاياه المقدّسة.
وعلى الصعيد الدولي، يسطع المغرب كوسيط موثوق، شريك استراتيجي للقوى الكبرى، وفاعل أساسي في إفريقيا. وفي 2030، سيكون على موعد كوني مع العالم عبر استضافة كأس العالم إلى جانب إسبانيا والبرتغال، نافذة تُبرز صورته الواثقة الحديثة.
فهل هذه ملامح غروب؟ لا. إنها شمس سيادة في شروقٍ دائم، لا يغيب نورها مهما تكاثفت الغيوم. إن المملكة لا تسير وفق السرديات الخارجية، بل وفق رؤيتها الواضحة: المغرب الكبير، واقفاً، متقدّماً، وفيّاً لجذوره ومنفتحاً على الكوني.
وربما هنا يكمن سرّ الإزعاج: أن مملكةً طالما نُظر إليها باستعلاء، أصبحت اليوم تتصدّر إفريقيا الحديثة وتخطّ بصمتها الجريئة على الساحة العالمية. المغرب لم يعد يكتفي بالمتابعة: بل يبتكر، يجدّد، ويقترح.
المغرب ليس في نهاية عهد، بل في ذروة تثبيت ذاته. من يظنّون أنهم يرون غروباً، يخطئون الأفق: فما يلوح في سماء المملكة هو فجر سيادي متوهّج، لا تحجبه غيوم العابرين، مدفوع بولاء شعبٍ وشرعية ملكية عريقة.
إن التحالف بين العرش والشعب ليس صفقة سياسية، بل روح أبدية ونَفَس لا ينقطع، هو الذي صان استمرارية الدولة وأبقى الأمة حيّة نابضة. وهذا هو الخط الأحمر الساطع الذي لا يستطيع أي سردٍ منحاز أن يمحوه.
فلماذا إذن هذا الإصرار على رسم الظلال؟ لأن استقرار المغرب يربك، لأن نموذجه الإفريقي يُلهم، ولأن سيادته المستقلّة تنفلت من الأجندات الخارجية.
وهنا يتجلّى عجز لوموند: صحيفة آثرت الإيحاء على الاعتراف، والدراما على البرهان، فظنّت أن روايتها يمكن أن تزعزع ما لا يُزعزع. لكنها لم تكشف عن المغرب، بل كشفت عن شيخوخة خطابها وانكسار بوصلتها، فأطلقت النار على مصداقيتها بنفسها.
الغروب الحقيقي ليس في المغرب، بل في صحافة تذوي مثل شمعة في مهبّ الريح، أسيرة تحيّزاتها ومعاييرها المزدوجة. وحين تزعم لوموند أنها تصف المغرب، فإنها تكشف عمى رؤيتها قبل أي شيء آخر.
أما المغرب، فلا يحتاج إلى ظلالٍ مستوردة ليكتب تاريخه. إنه يمضي في وضح النهار، ثابت الخطى، وفيّاً لذاته، عصيّاً على الكسر، بفضل التحالف المقدّس بين ملكه وشعبه. تحالف لن يُكسر أبداً، لأنه ليس عقداً سياسياً، بل عهدُ حياة يجري في عروق الوطن.
فالمغرب ليس شمساً يطفئها قلم، ولا فجراً يحجبه غبار مقال؛ إنه ضوءٌ سياديّ يشرق كل يوم، لا على صفحات الجرائد، بل على أرضه وشعبه.
* أستاذ ومكوّن أكاديمي – كاتب وباحث في قضايا الهجرة المغربية والديناميات التنموية الدولية