حين ينجح المجتمع المدني حيث تتقاعس المؤسسات: الملتقى الدولي لمغاربة العالم
حين نتحدث عن تنزيل المشاريع والبرامج الإستراتيجية التي دعا إليها صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، فإننا نتحدث عن رؤية ملكية شمولية تستند إلى الدستور، وتضع المواطن المغربي في قلب الأولويات، سواء داخل الوطن أو خارجه.
وفي مقدمة هذه الأولويات، يأتي ملف مغاربة العالم، باعتباره ملفًا وطنيًا استراتيجيًا يعكس عمق الارتباط بين الوطن وأبنائه في مختلف بقاع الأرض.
لكن، للأسف، نجد في كثير من الأحيان فجوة واسعة بين التوجيهات الملكية السامية وما يجري على أرض الواقع، خاصة حين يتقاعس بعض المسؤولين والمؤسسات عن مواكبة هذه الرؤية ودعمها، ماديًا ومعنويًا، بالشكل الذي تستحقه.
الملتقى الدولي لمغاربة العالم بقلعة مكونة: تجربة رائدة
خلال الفترة الممتدة من 5 إلى 12 غشت الجاري، شهدت مدينة قلعة مكونة حدثًا استثنائيًا تمثل في تنظيم الملتقى الدولي لمغاربة العالم، في نسخته الثالثة الذي أُشرف على إدارته كمنسق وعضو فاعل ضمن لجنته التنظيمية.
كان هذا الملتقى نموذجًا حيًا على أن المجتمع المدني، حين يتوفر على الإرادة والغيرة الوطنية، يستطيع أن يحقق ما لم تحققه مؤسسات تملك الموارد والميزانيات الضخمة.
ثمانية أيام كاملة من العمل الميداني المكثف، تضمنت أنشطة فنية وثقافية وحقوقية ورياضية واقتصادية، جعلت من قلعة مكونة منصة عالمية للحوار والتواصل بين مغاربة الداخل والخارج.
في مجال الفنون التشكيلية، شارك فنانون مرموقون من إيطاليا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، إضافة إلى فنانين من السعودية ودول عربية أخرى، وكذلك فنانين كبار مغاربة على سبيل المثال الخطاط العالمي محمد قرماد.
في المجال الرياضي، نظمت دورة كروية جمعت أبناء المنطقة في جو من التآزر.
في المجال الاقتصادي، أقيم معرض للصناعات التقليدية شارك فيه أكثر من 60 عارضًا من مختلف أقاليم المملكة.
أما السهرات الكبرى، فقد كانت مساحة لاندماج مغاربة العالم مع وطنهم الأم، وتوجت في الليلة الختامية بلحظة وطنية نادرة: النشيد الوطني يُعزف وسط الشارع العام، والجميع، نساءً ورجالاً وأطفالاً، واقفون في إجلال واحترام قبل تلاوة برقية الولاء لجلالة الملك.
دروس في الوطنية والالتزام
هذا الملتقى أثبت أن مغاربة العالم ليسوا مجرد جالية في الخارج، بل هم قوة وطنية، وشريك استراتيجي في الدفاع عن القضايا المصيرية وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية.
فقد خُصصت جلسات حوارية للترافع عن مقترح الحكم الذاتي كحل سياسي وحيد، وتوضيح دور الجالية في التصدي لدعاية الخصوم على الساحة الدولية.
ورغم أن الملتقى ينسجم تمامًا مع التوجهات الملكية، ويترجم مضامين الدستور التي تنص على إشراك المجتمع المدني في إعداد وتتبع السياسات العمومية، إلا أن غياب الدعم المؤسسي كان صادمًا.
باستثناء وزارة الثقافة، التي تم توقيع اتفاقية معها ولم تُصرف بعد مخصصاتها، لم تُقدم أي جهة رسمية دعمًا، رغم أن النشاط يخدم صورة المغرب ومصالحه العليا.
المفارقة المؤلمة
السؤال المشروع الذي يطرح نفسه: لو كان هذا الملتقى تحت مظلة حزب سياسي أو تيار انتخابي، كم كانت ستُصرف عليه من الأموال العمومية؟ وكم كانت ستتسابق المؤسسات لتوفير الدعم والتغطية؟
إن ما واجهناه من تجاهل ممنهج ومحاولات تشويش من بعض الأطراف، لن يزيدنا إلا إصرارًا على المضي قدمًا.
فقد نجح الملتقى بفضل دعم أبناء المنطقة ومغاربة العالم الأوفياء، وأثبت أن الوطنية ليست شعارات انتخابية، بل أفعال وتضحيات.
رسالة مفتوحة إلى المسؤولين
من موقع المسؤولية الحقوقية، ومن منطلق الانتماء الصادق للوطن، أوجه نداءً لكل مسؤول معني بملف مغاربة العالم: أعيدوا النظر في طريقة تعاملكم مع المبادرات المدنية الجادة، وادعموا المشاريع التي تخدم المصلحة الوطنية بعيدًا عن الحسابات الضيقة.
فالملتقى الدولي لمغاربة العالم بقلعة مكونة أصبح اليوم محطة سنوية مرجعية، توثق الارتباط العميق بين العرش والشعب، وتفتح آفاقًا للتنمية المحلية، وتعزز حضور المغرب في قلوب وعقول أبنائه في الخارج.
إن الاستثمار في هذه المبادرات ليس منّة ولا هبة، بل هو واجب وطني ودستوري، لأنه ببساطة استثمار في قوة المغرب الناعمة وصورته الدولية.
إن منطقة الجنوب الشرقي للمملكة ليست فقط مجالًا جغرافيًا زاخرًا بالتنوع الثقافي والحضاري، بل هي خزّان وطني زاخر بالطاقات والرجال الأوفياء، الذين جسّدوا عبر التاريخ أسمى معاني الالتفاف حول العرش العلوي المجيد.
أبناء هذه الربوع، في الداخل والمهجر، يثبتون في كل مناسبة أنهم جنود أوفياء في معركة الترافع عن القضايا الوطنية، وعلى رأسها قضية الصحراء المغربية، حاملين صوت الوطن إلى المحافل الدولية، ومدافعين عن مقترح الحكم الذاتي كخيار سيادي وحضاري.
إن الجنوب الشرقي، برموزه وفاعليه ومجتمعه المدني النشيط، يظل قلعة صامدة في تعزيز أواصر الارتباط بالمؤسسة الملكية، ومختبرًا حيًا للوطنية الصادقة التي تتجاوز الشعارات إلى العمل الميداني الملموس.
يتبع..