آراء
أخر الأخبار

الانتماء.. بين فطرة الإنسان وحاجة الوجود

منذ أن يفتح الإنسان عينيه على هذا العالم، يجد نفسه منتميًا دون أن يختار: إلى أسرة تحمله، إلى لسان ينطقه، إلى أرض ينتمي إليها ويُحسب عليها. ومع مرور الأيام، يبدأ في نسج روابط أعمق، بعضها يُفرض عليه وبعضها الآخر يختاره عن وعي أو انجذاب أو حتى ضياع.

فالإنسان لا يعيش في عزلة، لأنه ببساطة مخلوق اجتماعي. تراه يبحث دومًا عن “نحن” ينتمي إليها، عن جهة يتماهى معها، عن راية ترفرف فوق رأسه حين تشتد العواصف. قد تكون تلك الجهة نادٍ رياضي، أو جماعة فكرية، أو حزب سياسي، أو طائفة دينية، أو حتى مجتمع رقمي على منصات الإنترنت. والسؤال الجوهري هنا: هل الانتماء ضرورة فطرية، أم حاجة نفسية، أم هروب من قلق الذات؟

لقد صنّف علماء النفس الحاجة إلى الانتماء ضمن أهم احتياجات الإنسان، كما في هرم “ماسلو” الذي يضع الانتماء في موقع أساسي بين حاجات الحب والأمان وتحقيق الذات.

فالانتماء هو ضرورة تماثل الحاجة إلى الطعام والمأوى و ليس ترفًا كما يظن الكثير من الناس،حيث من خلال الانتماء، يشعر الإنسان بأنه مرئي، مسموع، معترف بوجوده. هو الدفء الذي يلفّ الروح، والملاذ من برد الوحدة القاتل.

ويُعيد الإنسان من خلال الانتماء بناء هويته مرارًا. فحين ينتمي إلى نادي أو حركة أو عقيدة، فهو يختار موقعه من العالم. إذ يصبح اسمه مقرونًا بذلك الكيان: فلان “المناضل”، “العضو”، “المؤمن”، “المناصر”.. وتتشكل هويته الاجتماعية من خلال هذا التفاعل، لكنها قد تضيّق عليه أفق التفكير إذا ما تحوّلت إلى هوية صلبة لا تسمح بالنقد الذاتي أو بالخروج من القطيع.

وحين يكون الانتماء طوعيًا، عقلانيًا، ناضجًا، يصبح مصدرًا للقوة، ووقودًا للإبداع. حيث أن الانخراط في جمعية خيرية، أو في فريق رياضي، أو حركة فكرية، يُنمّي في الفرد روح المسؤولية، ويشجّعه على العطاء. فبعض الانتماءات تبني الإنسان وتفتّح مداركه، وتمنحه معنىً أسمى لوجوده.

غير أن الانتماء قد يتحوّل إلى سجن، حين يُغلق الأبواب على العقل، ويمنع الفرد من رؤية العالم إلا من خلال “نحن” ضد “هم”. هنا يتسلل التعصب، ويولد الانغلاق، ويشتد العداء، وتُنبت الطوائف جدرانًا بدل جسور. فيصبح الانتماء عبئًا، وساحة للمعارك الفكرية والعقدية والرياضية وحتى العرقية. فكم من حروب دينية وسياسية قُدمت باسم “الانتماء”، وكم من إنسان سحقه ولاءه الأعمى لكيانه.

أما في زمن العولمة والانترنت، فقد تغيّرت خريطة الانتماء. إذ لم يعد مقصورًا على الجغرافيا أو القبيلة أو الحزب. فصارت هناك “قبائل رقمية”، و”جماعات افتراضية”، وانتماءات عابرة للقارات، حيث يمكن لشاب في الدار البيضاء أن ينتمي إلى تيار فكري في طوكيو أو إلى مجموعة رقمية في بوينس آيرس. لكن هذه الانتماءات، رغم اتساعها، تفتقر غالبًا إلى العمق والالتزام، وتكون سريعة التبخّر كما كانت سريعة التشكل.

فهل يملك الإنسان حق اختيار انتمائه؟ جزئيًا نعم. لكن الانتماءات الأولى كالدين، واللغة، والوطن، اولطائفة ،فهي تُغرس فينا كالبذور. غير أن الشجاعة تكمن في مراجعة هذه الانتماءات دون خيانة، في نقدها دون كفر بها، في السباحة ضد التيار حين يكون التيار جارفًا نحو التعصب.

ختاما، فالانتماء هو مرآة لاحتياجنا الإنساني للتواصل، لكنه يصبح خطرًا حين يسرق وعينا ويحوّلنا إلى أدوات في يد جماعة، أو قطيع في فم زعيم. لذلك، فإن السؤال ليس: هل ننتمي؟ بل: كيف ننتمي؟ وهل نحتفظ بإنسانيتنا وحريتنا ونحن في حضن هذا الانتماء؟

فلنبحث عن انتماء يفتح لنا أبواب العالم، لا يغلقها، انتماء يجعلنا نحترم المختلف لا نلغيه، ونرى فيه مرآتنا لا خصمنا.

https://anbaaexpress.ma/5hg7o

هشام فرجي

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى