آراءثقافة
أخر الأخبار

الإجماع.. السلاح المقدس لاغتيال العقل

إن الإجماع لم يكن فقط أداة لإغلاق باب الاجتهاد، بل كان أداة لإذلال العقل. لقد جعلوا من مخالفة المفسرين والفقهاء الكبار جريمة أخطر من مخالفة النص نفسه. وبمرور الوقت، صار الناس يعبدون تفسيرات البشر أكثر مما يقدسون النص الإلهي

على مدى قرون، كان أخطر سلاح استعمله رجال الدين لإخضاع العقول وإسكات الأفواه هو ما يسمونه “الإجماع”.

في الكتب الفقهية يُقدَّم الإجماع كاتفاق الأمة أو علمائها على حكم أو رأي، لكن في الواقع التاريخي والاجتماعي، كان الإجماع مجرد لافتة مزخرفة تخفي وراءها سلطة قمعية لا ترحم، سلطة تحرس الماضي وتغلق أبواب المستقبل.

باسم الإجماع، أُعدم الحق في التفكير الحر، وأُعلنت الحرب على أي محاولة فردية لقراءة النصوص بعيون جديدة. كل من تساءل، أو شك، أو اجتهد خارج حدود المألوف، صُوِّر كخارج عن الجماعة، وكافر بالثوابت، وخائن للدين. لم يكن الأمر نقاشًا علميًا، بل كان محكمة تفتيش كاملة، حيث القضاة هم رجال الدين، والتهمة جاهزة: “مخالفة الإجماع”. 

الطامة الكبرى أن هذا “الإجماع” الذي يدافعون عنه كأنه وحي منزل، لم يكن في معظم الأحيان إلا اختراعًا سياسيًا وفقهيًا لحماية سلطة رجال الدين ومن يدعمهم من الحكام.

فالاتفاق المطلق بين العلماء لم يوجد يومًا في كل المسائل، لكن الادعاء بوجوده كان كافيًا لسحق أي صوت مخالف. هكذا، تحوّل الإجماع إلى سيف مسلط على رقاب المفكرين، يقطع كل خيط يربطهم بحرية التأويل وإعمال العقل.

سلطة الإجماع هي التي جعلت الفقه الإسلامي، في كثير من جوانبه، متحجرًا لا يواكب الزمن. فعندما يُمنع على المسلم أن يفهم القرآن أو السنة بعقله الخاص، وعندما يُطلب منه أن يكرر ما قاله بشر عاشوا قبل ألف سنة، فإن النتيجة الحتمية هي جمود فكري وحضاري.

لقد تم تحويل الدين من رسالة حية تتفاعل مع كل عصر، إلى متحف مغلق تعرض فيه أفكار وأحكام ماضٍ مقدس، يُحظر الاقتراب منه أو المساس به.

إن الإجماع لم يكن فقط أداة لإغلاق باب الاجتهاد، بل كان أداة لإذلال العقل. لقد جعلوا من مخالفة المفسرين والفقهاء الكبار جريمة أخطر من مخالفة النص نفسه. وبمرور الوقت، صار الناس يعبدون تفسيرات البشر أكثر مما يقدسون النص الإلهي.

وبهذا المعنى، فإن الإجماع لم يكن حفظًا لوحدة الأمة، بل كان قتلًا لوحدة الفكر الحي، واستبداله بوحدة شكلية قوامها الخضوع والطاعة العمياء.

المفارقة أن كثيرًا من القضايا التي يدّعون فيها الإجماع اليوم كانت موضع جدل واختلاف بين السلف أنفسهم، لكن التاريخ يعيد صياغة الرواية بما يخدم سلطة القائمين عليه.

إنهم يختارون من الماضي ما يناسب بقاءهم في القمة، ثم يرفعونه إلى مقام “الإجماع” ليصبح مقدسًا. ومن يعترض؟ سيجد نفسه خارج “الملة”، منبوذًا، وربما مهددًا في حياته.

لقد آن الأوان لفضح هذه اللعبة، وكسر هذا السلاح، الدين الذي يحتاج إلى عصا الإجماع لفرض سلطته هو دين فقد ثقته في نفسه وفي قدرته على إقناع العقول الحرة.

والنص الذي يخاف من التأويل الفردي نص لا يستحق التقديس. إن إعادة الاعتبار للعقل لا تعني الفوضى، بل تعني استعادة حقنا الطبيعي في التفكير بلا إذن من حارس البوابة.

الحقيقة المرة أن الإجماع، كما استُخدم عبر التاريخ، لم يكن إجماع الأمة، بل كان إجماع السلطة. سلطة تريدك أن تصمت، أن تتبع، أن تكرر.. لا أن تفكر.

وكسر هذه الحلقة ليس خيارًا فكريًا فحسب، بل هو معركة تحرير للعقل، معركة من أجل أن يكون الدين ملكًا للجميع، لا ملكية خاصة لطبقة تحتكر الفهم وتوزع صكوك الإيمان.

https://anbaaexpress.ma/3dmre

محمد بوفتاس

كاتب صحفي وسيناريست مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى