فايز أبورزق
ليومين متتاليين قصدت مستشفى الشفاء لزيارة أحد الأحبة الذي ألمت به إصابة خطيرة. في كل مرة كنت أشعر بوجع في الروح.. لطالما كرهت زيارة المشافي قبل هذه الإبادة لأسباب كثيرة.. لكن ما رأيته هذه المرة كان أفظع وأشد مرارة.
قبل أن تطأ قدماك المشفى المتهالك، الذي دمر الاحتلال أجزاء واسعة منه، تستقبلك أصوات المولدات الكهربائية العملاقة.. وبرغم ضجيجها.. تحمد الله أن الكهرباء ما زالت تتدفق في هذا المكان.
في الساحة الخارجية، حيث ما يسمى بـ”البركس”، ترى وجوه المرافقين وقد تحولت كل منها إلى حكاية، من يبكي بصمت، ومن يرفع يديه متضرعا للسماء، ومن يقف شاردا بلا هدف ولا حول.. وعلى بعد أمتار قليلة، شاهدت مريضا بائسا يزحف على يديه وقدميه محاولا الوصول إلى القسم.
نظرت بتحسر إلى مبنى الجراحة التخصصي متعدد الطوابق، فما تبقى منه مجرد أشلاء بفعل ضربات الاحتلال.. وحين سألت عن البديل، أرشدوني إلى مبنى العيادات الخارجية.
في داخل المبنى، يعمل الأطباء والممرضون بأقصى طاقتهم. كلماتهم قصيرة، مباشرة، خالية من المجاملة وربما من اللين، فالوقت ليس للرفق وإنما للإنقاذ.
عند باب قسم العمليات اندلع شجار بين طبيب ومريض مستفز، سرعان ما اتهم الطبيب بالعمالة وحاول الاعتداء عليه. بدا الطبيب وكأنه مستعد، فالتقط عصا كانت مخبأة بجوار مكتبه. تدخل أحد أبناء العم وفض الشجار قبل أن تصل المعركة إلى مريضنا الملقى على الأرض قرب القسم.
لم أستغرب الموقف.. فالضغوط على الجميع هائلة.
الممرات مكتظة بالمرضى والمرافقين إلى حد أن أحد المراجعين داس على قدم مصابة دون أن يلتفت للاعتذار، تاركا خلفه لعنات الموجوع.
عجوز ملقاة بجوار أحد الأبواب، لا مرافق لها سوى أنفاسها المتقطعة. وعلى جانب آخر، رجل يتجاوز وزنه المئة وأربعين كيلوغراما. توقفت لحظة أتساءل عن سر وزنه في ظل المجاعة، ثم غادرت سريعا، فقد يكون ضحية خلل هرموني لا سمنة مترفة.
المباني التي ما زالت قائمة في مجمع الشفاء لا تتعدى أصابع اليد الواحدة: مبنى الولادة، مبنى العيادات الخارجية، بركس من الزينكو أقيم كحل مؤقت، بعض الخيام، والمشرحة التعيسة.

أما صديقي الذي جئت لعيادته، فقد قرر الأطباء بتر قدمه. وبعد ساعة من دخوله العمليات، خرجت ممرضة تطلب منا جلب كيس خيش أو كرتونة لاستلام القدم المبتورة.
خرجنا في مهمة بحث قصيرة وأنا أسال نفسي: هل تدفن الأقدام إذا بترت أم ترمى؟ لعنت غبائي عندما تذكرت منظمة “زاكا” الإسرائيلية التي كانت تلملم أشلاء القتلى بعد تفجيرات الباصات، فأيقنت أن الدفن هو المصير..
بعد نصف ساعة من البحث نجحنا في إحضار كيس خيش وآخر من النايلون، حتى لا تتسرب الدماء. أما الكرتون في غزة فهو كنز يستخدم لإشعال النار، ولن تجد واحدا مهملا في الطرقات.
سألت أحد الممرضين، أين سنضع المريض بعد خروجه من العملية؟ فأجاب على طريقة أبي الهول.. “دبروا حالكم”. لم أجادله، خشيت أن يكون مسلحا كما الطبيب، فينتهي بي الأمر ملقى على الأرض بجوار المراحيض. خرجنا نبحث عن سرير فارغ، لكن كل المحاولات فشلت. عندها خطرت لنا فكرة مراقبة خروج أحد المرضى لنغتنم سريره إن استدعت الحاجة..
ومع كثير من الحظ والانتظار، لمحنا مريضا يستعد للخروج. سألنا مرافقيه إن كان السرير محجوزا، فأجابوا بالنفي، فجلسنا على حافته حتى لا يسبقنا غيرنا.. أخيرا حصلنا على مكان لصديقنا. الذي خرج بعد ساعتين من غرفة العمليات بلا قدمه..
لم أكن أتخيل أن يفيق مريض من عملية بتر وهو على سرير في ممر بين الغرف أو بجانب المراحيض.
في الأقسام، لم تعد القطط السمينة تتجول كما في السابق، فالحرب والجوع قضيا عليها. وإذا احتاج المريض صورة أشعة، ينقل محمولا أو على كرسي متحرك قديم يسير بخط متعرج. وبعد التصوير، يلتقط المرافق النتيجة بجواله من شاشة الجهاز ليعرضها على الطبيب، الذي يمنحه تشخيصا سريعا في ثوان.
أما المشرحة، فلم أجرؤ على الاقتراب منها. العويل والصرخات المنبعثة من هناك تكفي لتجعلك تحمد الله أن صديقك فقد قدما فقط، ولم يكن بين المبكي عليهم.
أفهمتم الآن لماذا يجب أن تتوقف هذه المقتلة عاجلا وليس ٱجلا.
* كاتب وصحفي من غزة