حاليا ومع كتابة هذه الأسطر، وبمناسبة مرور ثمانين عاما على حريق هيروشيما (6 غشت) وناغازاكي (9 غشت) من عام 1945م، برزت حركة تسمى نفسها (هيباكوشا = Hibakusha)، حيث يقوم أحد الباحثين (نوبوهيرو ميتسوكا = Nobuhiro Mitsuoka) بتسجيل أقوال آخر ضحايا القنبلة الذرية، تحت عنوان “قدموا أرواحهم ولكن أنقذوا الجنس البشري”؛ فلم يُستخدم السلاح الذري ثانية بعد مرور ثمانين عاما على استخدامه، على الرغم من محاولة التفكير باستخدامه.
يقول المذكور إنه بقي من ذلك الجيل 99 ألف نسمة، ويموت سنويا منهم ممن تجاوز الثمانين من العمر سبعة آلاف، فوجب تسجيل كل ملاحظة وذكرى منهم. ونتابع في هذا الجزء تلك اللحظات الإبليسية.
إلى جزيرة تينيان
وفي صباح (16) تموز، وفي ضباب البحر الذي يغلف ميناء سان فرانسيسكو، على الطرف الثاني للولايات المتحدة على المحيط الهادي، تحركت البارجة (إنديانا بوليس) وغابت في عباب بحر المحيط، باتجاه جزيرة (تينيان) على بعد (9000) تسعة آلاف كيلومتر، حيث القاعدة البحرية الأمريكية هناك.
وعلى ظهر البارجة المذكورة ثُبِّت جهاز على شكل أسطوانة (في حجم أسطوانة غاز المطابخ الكبيرة = ثمة نوعان للقنبلة الذرية: الولد الصغير والرجل السمين) لا يزيد قطره عن (45) سم وطوله عن (60) سم.
وقد كُلف بحراسته اثنان من الضباط، كل ما يعرفون عنها أن اسمها (البرونكس)، وأنها شيء لا بديل له أو تعويض عنه، فهو أغلى من الغالي وأنفس من الدرر الثمينة!!
وأُوعز إليهم أن لا تفارق عيونهم هذه الأسطوانة العجائبية، وفي حال تعرض البارجة للخطر أو الغرق فيجب إنقاذ هذه الأسطوانة العجيبة ولو بحياة كل البحارة!! (1)
في نفس هذا الصباح، وعلى الشاطئ الآخر من الأطلسي، كان الرئيس الأمريكي (ترومان) يجتمع مع خصمه (ستالين) على مائدة المفاوضات بين أنقاض وخرائب المدينة الألمانية (بوتسدام) في صدد تقسيم العالم والنفوذ في مرحلة ما بعد الحرب الكونية الثانية!!
وقد علت البهجة وجه الرئيس الأمريكي، وغطى السرور محياه، وظهر ذلك في حركات يديه وعينيه، بعد أن وضعت بين يديه البرقية: “العملية تمت صباحاً. التشخيص لم يكتمل بعد. يبدو أن النتائج مطمئنة. وفاقت كل التوقعات” (2).
وفي يوم (6) أغسطس – آب، وعند الساعة الثامنة صباحاً، تحركت مجموعة من الطائرات من طراز (ب ـ 29، ما يعادلها اليوم B2) سميت بالمجموعة (509) الخاصة (3)، وأُخبر الطيارون بإلقاء الحمولة ثم الاندفاع إلى أكبر علو ممكن، مذكرين بالآية القرآنية: “ولا يلتفت منكم أحد وامضوا حيث تؤمرون”؟!!
وعندما سطعت الشمس النووية، وحلَّق (الفطر النووي) البئيس فوق مدينة (هيروشيما)، وطوى تحت جناحيه أشباح وأرواح عشرات الآلاف من البشر في لحظات نحسات، عندها أدركت عائلة (ويسل مان) وسائق القطار (إيدلين) والمذعور (لويس فاريس) من قرية (كوريثوثو) أنهم كانوا الشهود الأوائل على سطوع الشمس النووية الجديدة، بل وولادة عصر جديد.
وتبين أن ما شاهدوه كان في الواقع تجربة أول انفجار نووي على ظهر الأرض، في صورة تفجير قنبلة البلوتونيوم 239. (قنبلة 235 كانوا متأكدين من انفجارها، وهي كانت من نصيب هيروشيما، أما قنبلة 239 البلوتونيوم فكانت من نصيب ناغازاكي.
وهناك قول أن ناغازاكي ضربت باثنتين للطبيعة الجغرافية للمدينة، وقيل إن واحدة لم تنفجر وسُلِّمت للروس فقلدوها لتنفجر قنبلة ستالين “قنبلة جو” بعد ثلاث سنوات؟).
أصرت أمريكا، وبتوقيع واحد من الرئيس الأمريكي، على ضرب مدينتين هما (هيروشيما) و(ناغازاكي)، وحرق مئات الآلاف من الناس بالنار النووية الجديدة.
ونحن في كلامنا هذا لسنا في صدد إدانة طرف ولا تنزيه آخر، فلو امتلك (هتلر) أو (محاربو الساموراي) هذا السلاح لما ترددوا واستخدموه أيضاً، لأنهم ينهلون من نفس ثقافة (القوة والجبروت)!!
ونجت مدينة (كيوتو) الجميلة الأثرية من براثن الموت والحرق (مقدسة مثل مكة عند المسلمين والفاتيكان للمسيحيين)، نجت تحت ضغط وزير الخارجية الأمريكي.
إذ كان (ليزلي جروفز)، الرأس المخطط العسكري لمشروع (مانهاتن)، يخطط لتدمير هذه المدينة لتكون قاصمة الظهر للشعب الياباني باعتبارها المدينة الدينية لليابانيين كما ذكرنا، وأن عدد سكانها يصل إلى المليون وفيها ثلاثة آلاف من المعابد!!
وهكذا سطعت الشمس النووية فوق هيروشيما، معلنة امتلاك الإنسان وقود النجوم، وإمكانية إفناء جنسه العاقل بنفس الوقت، ووصوله إلى القوة التي لم يحلم بها إنس ولا جان.
ومن حريق هيروشيما، في ساحة النيران وقوافل الموت، وبعد أن أخذت يد الموت رقماً مرعباً، وحل على الأبدية في صدمة لم يعهدها سكان العالم السفلي، دخل في دقائق معدودة قرابة (150000) مائة وخمسين ألفاً من عباد الله.
هوامش ومراجع
(1) من الأمور العجيبة في رحلة البارجة إنديانا بوليس أنها غرقت فعلاً، ولكن ليس في رحلة الذهاب بل العودة، حيث أُصيبت في يوم (26) تموز يوليو بعد عشرة أيام من رحلة انطلاقها من سان فرانسيسكو، وبعد تفريغ حمولة (الأسطوانة!!) في جزيرة (تينيان)، إذ ضُربت بطوربيد من غواصة يابانية، جعلها تهوي إلى القاع في (12) دقيقة. ولم ينجُ من بحارتها البالغ عددهم (1196) بحاراً سوى (315) رجلاً، فتأمل المصادفات وعمل الأقدار!!
(2) نقل عن الرئيس الأمريكي في تلك الأيام أنه كان يقول: “إذا انفجرت كما أظن، فسوف أعرف كيف أربي أولئك القادمين من راكبي قطار الدرجة الأخيرة”. يعني بهم السوفيات. لذا كان من جملة التحليلات القوية أن السلاح النووي استُعمل ليس لضرب اليابان بالدرجة الأولى، بقدر السيطرة على العالم ما بعد الحرب، لأن اليابان كانت في طريق الاستسلام، ونتائج الحرب العالمية الثانية بدت واضحة للعيان، خاصة أن ألمانيا كانت قد استحالت إلى أنقاض وخرائب.
(3) تم كشف النقاب منذ فترة قصيرة عن القصة السرية لتطور السلاح النووي الأمريكي، ولقد فتحت وزارة الطاقة الأمريكية الباب للمهتمين للاطلاع، ومنهم مهندس الكمبيوتر (جاك هنزن = Jack Hansen)، الذي كتب كتاباً ضخماً بعنوان: “القصة السرية لتطور الأسلحة النووية = Secret history of nuclear weapons”.
يتبع..