آراءثقافة
أخر الأخبار

العقل.. بين نور القرآن وظلام التبعية

العقل، الذي منحه الله للإنسان ليكون دليلًا على صدق الرسالة، أصبح خطراً يجب قمعه، والتدبر الذي أمرنا به القرآن صار "فتنة" يجب تجنبها. وهكذا، تحوّل الدين من رسالة تحررية إلى أداة لإدامة السلطة، ومن منهج عقلي إلى قفص للتبعية..

القرآن الكريم، منذ أول كلمة نزلت، كان إعلانًا لحرية الفكر وفضاءً لتأمل الإنسان في نفسه والكون من حوله. ليست آياته مجرد كلمات تُتلى، بل هي دعوة مفتوحة للعقل، تحث على التساؤل والتفكر والتدبر.

قوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن} و{أفلا تعقلون} و{إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون} ليس خطابًا عابرًا، بل تعليم صارم بأن العقل هو الوسيلة الأساسية للفهم واليقين.

العقل في القرآن ليس ترفًا فكريًا، ولا مجرد أداة نظرية، بل هو الشرط الذي يجعل الإيمان حقيقيًا، والإيمان بلا عقل أشبه بالضياع في ظلمة بلا نجوم.

الإنسان يُحمل مسؤولية التفكير، ويُمنح الحق في السؤال، ويُحث على النقد البناء، لأنه حين يُفكر، يكتشف صدق الرسالة، وتصبح عبادته اختيارًا واعيًا، لا مجرد طقوس أعمى.

لكن واقع التاريخ يفضح تناقضًا صارخًا. فحين ظهر رجال الدين، بدلًا من أن يكونوا مرشدين للعقول، أصبحوا قمعًا لها.

حوّلوا النص القرآني، الذي يرفع الإنسان إلى مستوى الرؤية والفهم، إلى أداة سلطوية تُبرر الطاعة العمياء والخضوع اللاواعي. أسسوا سلطة على خوف الناس من السؤال، وصار المعترض على تفسيرهم يُوصم بالبدعة أو الكفر.

العقل، الذي منحه الله للإنسان ليكون دليلًا على صدق الرسالة، أصبح خطراً يجب قمعه، والتدبر الذي أمرنا به القرآن صار “فتنة” يجب تجنبها. وهكذا، تحوّل الدين من رسالة تحررية إلى أداة لإدامة السلطة، ومن منهج عقلي إلى قفص للتبعية.

والمفارقة المذهلة أن القرآن نفسه يحذر من التقليد الأعمى، ويضع العقل في صدارة كل تجربة دينية. ولكنه على مر القرون، صار موضوعًا لتفسير سلطوي يجعل الإنسان مجرد ناقل لأقوال السابقين، وليس مشاركًا في خلق المعنى.

كل آية تُقرأ، كل حكم يُفهم، يُقدّم كحق مطلق جاهز، من دون أن يُترك للمسلم فرصة للتفكر والتدبر، كما لو أن الاستسلام العقلي هو السبيل الوحيد إلى النجاة. لم يعد الدين تعليمًا، بل إدارةً للعقول، لا تترك مجالًا للتساؤل أو الشك.

إن تعطيل العقل لا يقتصر على حرمان الإنسان من التفكير، بل يحرمه من الحياة نفسها. العقل هو الذي يفرّق بين الحق والباطل، وهو الذي يجعل الإيمان حقيقة وليس مجرد شعور أو عادة.

حين يقال لك “صدق ولاتسأل”، يُسلب منك دورك الإنساني الكامل، ويُقيدك في قفص الطاعة بلا نقاش. وهذا ما فعله رجال الدين عبر القرون: استخدموا الدين كسلاح للسيطرة، وجعلوا النصوص المقدسة مرآة لتبرير الاستبداد الفكري والاجتماعي.

الفرق بين العقل في القرآن وعقلية رجال الدين كالليل والنهار. القرآن يرفع العقل إلى مقام الشاهد، إلى أفق الفهم والمعرفة، أما رجال الدين فيحولونه إلى أداة قمعية، تُخمد الفضول وتقتل الرغبة في البحث.

العقل هنا ليس مجرد أداة معرفية، بل هو فعل حرية، وبدونه تصبح العبادة مجرد خضوع آلي، والروح مجرد جسد بلا حياة.

إعادة العقل إلى مركز الفهم ليست ترفًا فكريًا، ولا مجرد نقاش فلسفي، بل هي العودة إلى جوهر الرسالة القرآنية نفسها. فهي تعني رفض الطاعة العمياء، ومواجهة أي سلطة تحاول أن تُلغي التفكير باسم الدين، واستعادة قدرة الإنسان على أن يكون مؤمنًا وعاقلًا في آن واحد.

كل مؤمن بلا عقل، هو عبد لا مختلف، وكل مجتمع يقتل العقل باسم الدين، يحفر قبور الحرية قبل أن يموت الجسد.

القرآن وضع العقل في المقدمة، وحذر من الاستسلام للجماعة والتقليد الأعمى. رجال الدين الذين حولوا النص إلى سلطة على النفوس لم يفعلوا إلا تعطيل هذا النور.

وها هو التناقض الصارخ: دين يرفع الإنسان بعقله وروحه، وعقيدة تتحكم فيه عبر خنق عقله، تحول التعليم إلى طاعة، والحرية إلى خوف، واليقين إلى رهبنة مصطنعة.

إن استعادة العقل ليست مجرد واجب فكري، بل هي معركة حقيقية ضد كل نظام يبتكر أعذارًا لتقييد التفكير باسم الدين، وضد كل سلطة تجعل الإنسان تابعًا بلا وعي، بلا تدبر، بلا حياة.

https://anbaaexpress.ma/23dcv

محمد بوفتاس

كاتب صحفي وسيناريست مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى