آراءسياسة
أخر الأخبار

هل تسير إسرائيل نحو الانهيار؟ “تحليل”

من عزلة غزة إلى عزلة تل أبيب

حين تتقاطع الأوهام مع الجدران الصلبة للواقع تلقّت إسرائيل في 7 أكتوبر 2023 أكبر صدمة استراتيجية منذ تأسيسها. لم تكن مجرد عملية أمنية، بل كانت زلزالًا وجوديًا زعزع ما اعتبرته الدولة العبرية “تفوقًا دائمًا”.

ومنذ ذلك اليوم، دخل بنيامين نتنياهو، ومعه الدولة الأمنية الإسرائيلية، في مسار تصادمي مع الواقع، ومع الحلفاء، ومع الذات الجماعية للمجتمع الإسرائيلي.

بعد ما يقارب 22 شهرًا من الحرب على غزة، لم يتحقق “النصر الحاسم” بل تفاقمت الكلفة السياسية، تعمق الاستقطاب الداخلي واهتزت صورة “الجيش الذي لا يُقهر”، أُنهكت الآلة العسكرية وتقلصت شرعية إسرائيل على الصعيد الدولي، حتى في أعين أقرب حلفائها.

هل هذا التآكل متعدد الأوجه هو مجرد مرحلة اضطراب أم إن بنيامين نتنياهو بأدائه الإيديولوجي وحساباته الشخصية يقود المشروع الصهيوني نحو انهيار داخلي زاحف؟

نتنياهو صانع الأوهام الكبير

طوال عقدين، بنى نتنياهو صورته كـ”ملك لإسرائيل”، وكزعيم “براغماتي” يعرف كيف يناور بين أميركا وروسيا، بين الأمن والاقتصاد، بين التطبيع والخطر الإيراني، بين “اليمين” و”اليمين المتطرف” الإسرائيلي، لكنه منذ سنوات بدأ يحكم بمرآة مجروحة: يرى ذاته فوق الدولة، ويرى الدولة مجرد أداة لإدامة حكمه وتحصينه القضائي.

تجلّى ذلك بوضوح في صيف 2023، حين قاد انقلابًا قانونيًا لتقويض استقلال القضاء، ما أشعل احتجاجات مليونية من داخل المجتمع اليهودي نفسه. ثم أعاد تشكيل حكومته مع أكثر الأحزاب تطرفًا في التاريخ الإسرائيلي:

من إيتمار بن غفير إلى سموتريتش، وخلق بذلك ائتلافًا أيديولوجيًا متطرفًا، لا يُبقي مجالًا للتسوية مع الفلسطينيين ولا حتى للتعايش الداخلي بين العلمانيين والمتدينين.

إن نتنياهو لا يقود فقط حربًا على غزة، بل يخوض معركة داخل إسرائيل ذاتها، مع مؤسساتها، مع نخبتها العسكرية، مع شعبها.

أزمة “الردع” وسقوط صورة الجيش

لسنوات عديدة، كانت العقيدة الأمنية الإسرائيلية قائمة على ثلاثة أعمدة: الردع المطلق، التفوق الاستخباراتي والحسم السريع، كل هذه الركائز تحطمت في غزة، حيث كسرت عملية 7 أكتوبر الردع الإسرائيلي المطلق.

وكشفت الصدمة الاستخباراتية، برغم كل النجاحات، عن عطب بنيوي في المنظومة وعجز الجيش عن الحسم، رغم التدمير الهائل، أطاح بمقولة “الجيش الذي ينتصر دائمًا”.

تزداد الكلفة البشرية والاقتصادية كل يوم: آلاف الجنود المصابين، تصدعات نفسية، خسائر اقتصادية تفوق 60 مليار دولار، وأزمات ثقة مع قيادة الجيش الذي بدأ ينتقد علنًا القرارات السياسية.

لأول مرة في تاريخ إسرائيل، يظهر انقسام عميق بين القيادة العسكرية والسياسية، يقوده رؤساء أركان سابقون (آيزنكوت، يعلون، باراك)، كلهم يحذّرون من سياسة “اللا استراتيجية” التي يتبعها نتنياهو.

من عزلة غزة إلى عزلة تل أبيب

ما لم تفهمه حكومة نتنياهو هو أن العالم تغيّر. لم تعد سردية “الدفاع عن النفس” تمر بسهولة، ولم يعد الحلفاء مستعدين للوقوف غير المشروط خلف إسرائيل مهما فعلت، فلأول مرة في التاريخ وجهت المحكمة الجنائية الدولية اتهامات بجرائم حرب لنتنياهو ووزير دفاعه .ووصفت محكمة العدل الدولية إسرائيل بأنها دولة تمارس الإبادة الجماعية.

عدا ما عاشته الجامعات الغربية من موجة دعم للفلسطينيين غير مسبوقة في تاريخها، بات الرأي العام العالمي، خاصة في الجنوب العالمي، يربط إسرائيل بالاستعمار والعنصرية.

كل هذا دفع وزيرة الخارجية الألمانية لتقول إن إسرائيل “تخسر تأييد الأجيال الجديدة في الغرب”، وهو تحوّل يهدد العمق الأخلاقي والدبلوماسي الذي قام عليه المشروع الصهيوني منذ 1948.

مجتمع يتآكل من الداخل

ولا يقل خطورة عن ذلك، الانقسام الاجتماعي الداخلي. فلم تعد إسرائيل مجتمعًا متجانسًا، بل باتت أقرب إلى فسيفساء تصادمية:

العلمانيون ضد المتدينين. الأشكيناز ضد الشرقيين .الشباب ضد الحرس القديم. الحريديم يعيشون على ميزانية الدولة دون أداء الخدمة العسكرية. المتطرفون يفرضون أجندتهم في كل تفاصيل الحياة العامة..

ومع الحرب، ارتفعت نسب الهجرة العكسية (اليهود الذين يغادرون إسرائيل)، وتزايدت مؤشرات فقدان الثقة في الدولة، حيث أظهر استطلاع للرأي أن أكثر من 70% من الإسرائيليين يعتقدون أن القيادة فشلت في إدارة الحرب.

إن الشرخ الداخلي في إسرائيل اليوم أخطر من أي تهديد خارجي، وربما هذا ما جعل بعض المعلقين يتحدثون عن “انهيار داخلي زاحف” كما حدث في جنوب إفريقيا أواخر القرن العشرين.

نتنياهو بين الجنون السياسي والبقاء بأي ثمن

يحكم نتنياهو اليوم بنفسية “الرجل الذي ليس لديه ما يخسره”. فهو لا يسعى إلى الخروج الآمن، بل إلى البقاء بأي ثمن، حتى لو كان الثمن تفكيك الدولة نفسها.

منع اتفاق التهدئة مع حماس، عارض صفقة تبادل الأسرى، دفع بالتصعيد مع حزب الله، ورفض مقترحات ترامب كما فعل سابقا مع جو بايدن… كل هذا فقط لئلا يُضطر إلى وقف الحرب والخروج من الحكم وسط اتهامات بالفشل.

إنه يجسد صورة ما أسماه كارل شميت “السياسي السيادي”، من يعلن حالة الاستثناء ليبقى في السلطة. لكن هذه اللعبة خطيرة، لأنها تؤدي إلى تآكل الدولة ذاتها ككيان قانوني وتحوّلها إلى أداة في يد زعيم مأزوم.

سيناريوهات المستقبل: نحو انهيار أم انفجار؟

أ. الانهيار الداخلي البطيء:

يشبه هذا السيناريو ما حدث في الاتحاد السوفياتي: دولة لا تنهار عسكريًا، بل تتآكل داخليًا بسبب الفساد، والعجز الاقتصادي، وفقدان الشرعية. قد يحدث هذا في إسرائيل إذا استمرت في إدارة الحروب دون أفق سياسي، وفقدت السيطرة على المجتمع، وتقلص دعم حلفائها.

ب. الانفجار الخارجي:

إذا توسعت الحرب إلى لبنان، أو تجددت المواجهة الشاملة مع إيران، فإن إسرائيل قد تواجه لأول مرة خطر الانهاك الشامل، وربما انهيار “الجبهة الداخلية” التي كانت دائمًا خط الأمان الأخير.

ج. الانقلاب السياسي:

وهو سيناريو خروج نتنياهو عبر الانتخابات أو عبر ضغط داخلي من الجيش والنخبة الأمنية. في هذا السيناريو، قد تعود إسرائيل لمحاولة ترميم مؤسساتها والانخراط في تسوية.

ما وراء نتنياهو: أزمة المشروع الصهيوني ذاته؟

في عمق السؤال، لا يتعلق الأمر بشخص نتنياهو فقط، بل بأزمة بنيوية للمشروع الصهيوني ذاته، الذي قام على مفارقة مزمنة: دولة يهودية ديمقراطية في أرض مأهولة بغير اليهود.

طالما تأجل هذا التناقض، عبر الاحتلال، أو الحروب، أو الدعاية. لكن اليوم، لا يمكن التهرب منه. لا يمكن الجمع بين: يهودية الدولة وحقوق الإنسان والسيطرة على ملايين الفلسطينيين بالقوة.

إما أن تختار إسرائيل أن تكون دولة لكل مواطنيها أو أن تسقط في هاوية “الأبارتهايد” والتآكل الأخلاقي والسياسي.

من يقود إسرائيل؟ الدولة أم الغريزة؟

ما يفاقم مأزق إسرائيل ليس فقط الفشل العسكري، بل الانهيار الأخلاقي في سلوكها الحربي. تقارير الأمم المتحدة، وأطباء بلا حدود، وصحافيون ميدانيون، أجمعت على حجم المجازر، استهداف البنية الصحية، وتجويع المدنيين، واستخدام سياسة العقاب الجماعي.

الحرب على غزة لم تكشف فقط عدوانية غير مسبوقة، بل سلوكًا يُقارن بما فعلته قوى استعمارية في القرن الماضي.

وكل ذلك جرى تحت أعين الإعلام، وفي عصر الشفافية الرقمية، ما جعل فقدان إسرائيل لرصيدها الأخلاقي أمرًا لا رجعة فيه.

لقد كان من صلب شرعية إسرائيل أنها دولة “تدافع عن نفسها” أمام من تسميهم “إرهابيين”، لكن حين تتحول إلى دولة تقتل آلاف الأطفال وتُجوّع مليونَي مدني، فإنها تفقد أعز أوراقها: الشرعية الأخلاقية الرمزية أمام العالم.

قد لا تكون نهاية إسرائيل قريبة بمعناها الفيزيائي. لكنها قد تسير نحو تفكك تدريجي في المعنى، في الشرعية، في الهوية. إن بنيامين نتنياهو لا يقودها نحو “الانتصار”، بل نحو تحطم سرديتها المركزية: “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”، “الجيش الذي لا يُقهر”، و”الملجأ الآمن لليهود”.

حين تحكم الغريزة زعيما مهووسا بالبقاء، وتفقد الدولة بوصلتها الأخلاقية والسياسية، فإن السؤال لم يعد: هل تنهار إسرائيل؟ بل: متى؟ كيف؟ وعلى يد من؟.

https://anbaaexpress.ma/mju4y

عبد العزيز كوكاس

إعلامي وكاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى