لعلَّ الغالب في بعض اتجاهات قضايا النثر الحديث هو تطور النص السردي غير النمطي الذي كان ينتهجه ابن جنِّي أو سيبويه أو الدؤلي أو أعيان المقامات العربية الأدبية القديمة السِّنْخ أمثال الحريري والهمذاني وفلسفة أبي العلاء المعري في لزومياته ورسالة الغفران، كما في العصور السابقة بين القرنين الثاني والرابع الإخراجي، وهذا التباعد بين الوقتين لهو قمين بأن يوضع في الاعتبار من حيث الدراسة والتحليل، لأنَّ الفارق الزماني بيننا وبينهم ربى على المائة وأربعين قرناً أو عليها تزيد، فاختلفت بطبيعة الحال الكتابة من عصر لآخر ومن جيل لآخر، وأذكر في هذا المقام أنَّ أستاذنا المرحوم فرَّاج الطيب السرَّاج وأباه الشيخ السرَّاجي أو الطيب السرَّاج، كانا يعتقدان – وبعض الاعتقاد محمدة – أنَّ الشعر انتهى زمانه ورجاله بانتهاء عصر بشَّار بن برد، وأنَّ كل ما وصلنا من شعر بعد العصر العباسي ورجالاته ما هو إلَّا حنبريت ونسيا – رحمهما الله تعالى – أنَّ قوة الشعر وعموده الجَزْلَيْن إنَّما عادا بعودتهما هما لمسرح الشعر.
للأستاذ فرَّاج الطيب قصيدة ديوانية بعنوان: “رؤية عربية على ضفاف الرافدين” كتبها سنة 1987، والشيخ الطيب السرَّاج له قصيدة بعنوان “التجديد” حملت اسم الديوان الصادر في 2016 تقريباً، من عيون الشعر العربي القديم الرصين في العصر الحديث، والأدب الحديثين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين – فتأمل أصلحك الله – حيث أخرجا من الشعر الجيد هو من أفضل ما يقال في العصر الحديث، وإن كانا قد تنكَّبا عناء عصارة الفكر الحداثوي مقارعة ومجادلة ومصاولة، إلَّا أنهما لم يغنيا فتيلاً في منع ونفي ثورة الحداثة اليوم الواقعة بين الشعر والنثر المعاصرَيْن.
هذا! لا يخرج حديثي آنفاً من حاق قبول محمدة الحداثة اليوم في ثوب قشيب من أن يعرض سعادة الأستاذ الكبير الدكتور / محمود عبد المجيد عسَّاف، كتابه في فن كتابة أدب المقالات الموسوم بــــ “شدَّة وضمَّة – ملامح النبض المحكوم باللهفة والموت المؤجَّل” من اظهاره لقرَّاء العربية، ذلك لأنَّ غلبة حكم الوقت في أصالة نثرية اللغة العربية قمينة بأن نزف إليها خبر المحافظة على ديباجة اللغة العربية القديمة حين أرادها السرَّاجي وابنه فراَّج، ومن حيث مراد سيبويه ومدرستي الكوفة والبصرة النحويتين من باب المحافظة على اللسان العربي الأدبي السِّنْخ، ومن جانب سلامة وقوة البيان المطروحتين وقضاياه المتناولة بين دفتيه، أن يظهر للناس بلا تردد.
هذا الكتاب! يجمع بين المقالات الأدبية ذات النمط الجيد وبين تسجيل الرسائل الرومانسية المحضة في ثوب من أساليب الحداثة عزيز، لكنه في ذات الوقت يحافظ على مرادنا نحن طالبي المحافظة على النهج القديم الثبت، وبين قبول التأعصر حالة محكومة بنبض اللهفة والأمل الأصيل، وهو غزير العاطفة جام المحبَّة، وهذا شيء نادر الحدوث أن يجتمعوا معاً: صدق العاطفة وسِمْتُ الأدب.
يمكن للقارئ الكريم أن يلاحظ اختيار الألفاظ والمفردات وتراكيب الجمل من حيث السياق والصياغ، لهما ينبئان بقدر مقدور من التمكن بوضع الكتف مع الكتف، أي كتف الأصالة القديمة مع كتف الحداثة المعاصرة، بلا إخلال أو تشتت في المعنى أو المبنى، فهذا في حد ذاته يضاف لعبقرية الكاتب، وإن كنت أنا آخر من يتكلم عن عبقريته بلا شك.
اقرأ معي هداك الله: \[عاشق عند فوهة البحر في مساء المدينة المرهقة يمشطان الرمل بحثاً عن نبضة تائهة، يمسحان بقايا الوجع عن الشوارع المسودة، تحاول هي التوهج بالأنوثة، ويحاول هو ترتيب زهر البرتقال على خدِّها]، فمثل هذا التنسيق المتسق الواثق الملتزم بوضوح العبارة ودلالة المعاني، وإن كانت رمزية في وضع الكلمة موضعها المراد تماماً لنَفَس فكرة وشعور كاتبها، لهو قمين بأن يصدره للناس تباهياً في غير خيلاء وجودة من غير اختلال.
الكاتب لا يدعي الفلسفة ولا التفلسف ههنا ولا العبقرية الزائفة ولا الاجادة التافهة ولا التكلف ولا التصنع المفضوحين، وكنت قد بحثت طويلاً عن مثل هذه التراكيب اللفظية عند كتابنا اليوم فلم ألفها ولم تلفني إلَّا في هذا السفر.
ألفت الانتباه إلى صاحب هذه الكلمة من بلاد فلسطين الأصيلة، فهو صاحب قضية ومبدأ قبل أن يصير كاتباً، بل إنَّهما الرافعان المباشران فيما ذهبت إليه أن يكونا عوناً أصيلاً في الكتابة، هذه هي القضية، قضية احتلال وطن وتهجير أهله قسراً في المنافي البعيدة وتشريد أهله وتفكيك عراه الاجتماعية، وذاك هو المبدأ، مبدأ النضال والثورة والحب والحياة.
قال الشاعر العربي أحمد شوقي:
وطني وإن شغلت بالخلد عنه نازعتي إليه في الخلد نفسي
فلا أغالي إن ذهبت لتأكيد سِمْتَ هذا السفر إلى تلكم الحيثيات التي تئن بصاحبها في شكل أوراق وضمادات من المفردات بأداة تعبيرية عن شجو وشجون الذات المفعمة بحب الإنسان والوطن والأنثى والحياة، ويتفق معي الكثيرين على هذا المنحى في أحسن الظن بهم، منحى القضية التي ذكرت والمبدأ الذي تجلَّى.
قال تعالى: {ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين} سورة القصص، فهذا هذا ولا غرو.
أمر آخر، يقول: \[هذه هي الأحاسيس التي ضجَّت بالحسرات، نعم احساس الوجود الذاتي وحسرات البوح والشتات في البلاد] إذاً لم أبعد كثيراً عن مراده، فهذا ما وقع في خَلَدِي وذاتي من نَفَسِ الكاتب، وإلَّا فلا حرج ولا تأثيم على من فاتهم الاعتذار.
قال: \[ففي الوقت الذي يحتاج كل منهما إلى الآخر ليرمم داخله وليعيد لجسده النبض باحتضان، يحول النزوح والخيمة والقصف دون ذلك، فيصاب كل منهما بالذبحة العاطفية].
دعني أبعد قليلاً أيها القارئ الكريم فأقل: إن لم يرمز للمحبوبة بالوطن أو المكان المقدَّس، فهو بلا شك يضع لنفسه محبوبة فتاته ويومئ إليها بحب المشتهى من البدن إلى البدن، ومشتهى الوطن للسكن، قال: \[والتي هي موت يتجزأ على شكل صياح للروح عبر مادة الجسد الذي يشتهي]، يشتهي ماذا؟.
قال أبو تمام الحكمي:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى فما الحب إلَّا للحبيب الأول
وكم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل
وقال المجذوب (عبد الله الطيب المجذوب):
إلى لميس التي بين الدوحتين تميس
وما هي إلَّا غادة ألفتُها لدى النيل بين الدوحتين تميد
هنالك أوطاني وبدلت غيرها ألا إنَّ أوطان الرجال قيود
وليس السودان عنه ببعيد كما ترى، ذات الهم والمصير والنضال، فتأمَّل أصلحك الله.
هذا! لا يخلو هذا الكتاب من التأملات، تأملات الذات نحو الطبيعة وما وراء الطبيعة، يشتم من بين السطور، فالقضية عنده أكبر من وطن – هذا في أغلب الظن وأحسنه –، قضيته الإنسانية جميعها لمن يعانون ذات العناء ويتأملون سبيل الخلاص على مذابح الفوضى والرصاص، ذاك حين يتجلَّى الأمل ببارق العمل، والقلم سلاح لا ولات عنه حين مناص.
يقول: \[يبقى للمشاعر الغامضة تأججاً روحياً، يبقى لعبق الأبجديات حدودها التي لا تتجاوز من يستحقها، ويبقى هناك من يوقظ الوجد في الأعماق] انتهى.
ما هي هذه المشاعر الغامضة الباقية تأججاً روحياً غير ما ذكرته أنا عاليه؟ والله أعلم.
لاحظ دقة الوصف الانشائي الذي يجمع بين الرمزية المحضة وبين الاشارة الواضحة في بنية النص السردي سواء كانت مقالاً أو خاطرة أو فكرة أدبية ذات دلالات وطنية أو ايماءات عاطفية حزائنية، لكنها معاً يصبان حاق ملتقى واحد هو حياة الفكر وحياة الشعور، بغض النظر عن اتجاههما الأكيد الأخير.
قطع من الخواطر والتداعيات ذات أوصاب هرمية الفكرة جيدة الطرح، أنا ألتفت إلى الغاية من الفكرة بطريق السرد المتسق المبثوث على جنبات الطريق الكتابي الذي يحمل القضية والمبدأ والقيمة الواقعية، فلا تخلو منها بحال من الأحوال.
هذا الكتاب! يجمع ما بين المتعة والفائدة، وما بين الواقعية الحداثوية، وما بين القضايا الوطنية والمبادئ الإنسانية في أعلاها قمة العاطفة، وبين النهايات المرتجاة حدوثها في نوع من الحلول من منطلق رؤية الأشياء والأحياء عند الكاتب بين ريشته وذاته.
أنا سعيد للغاية حين شرَّفني الكاتب معالي الأستاذ الكبير الدكتور / محمود عبد المجيد عسَّاف، من بلاد فلسطين الأبيَّة، أن أقدِّم لهذا السفر الجيد، وإن كنت أقصرت الخطى عن تتبع كل حرف رواه بصدق القريحة وحس الفكر، ليجمع فعلاً بين الحياة والوداع، والأمل في أبهى صور الكتابة الحداثوية اليوم التي نأى عنها الكثير، وعزائي للذين يعرفون قيمة الفرق بين أصالة اللغة العربية ومتانتها بسابق مجدها وعصرها، وما بين عزتها حين خرجت من براثن الفوضى الكتابية التي يجدونها حتماً في هذا السفر.
شكراً لك على النشر