تمهيد
أنا هنا أتكلم عن الآية:
{لله ما في السموات والأرض، وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، والله على كل شيء قدير} [سورة البقرة].
وسيأتي بيانها لاحقاً.
وعن الآية:
{والسماء رفعها ووضع الميزان * ألَّا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان * والأرض وضعها للأنام} [سورة الرحمن].
وضع الميزان بلغة العصر الحديث هو: القوانين الفلكية الفيزيائية، التي تتلخص في الحقول المغناطيسية، وعوامل الجاذبية الكونية، التي تحفظ عملياً ما يعرف بقوة الطرد والجذب المركزيتين، وهما المسافات بين الكواكب والمجرَّات، والسرعات في قوة الدوران، وتتحكم فيها الكثافة، والوزن، والحجم، والأزمان لنهاية المجرات والكواكب والنجوم والمجموعات الشمسية في الكون، وإعادة الدورة من جديد.
أما “ألّا تطغوا في الميزان”، فتعني بلغة العصر الحديث: اختراق قوانين الطبيعة الفلكية الفيزيائية، بحيث لا يمكن للبشر تخطيها بحال من الأحوال، بل هم جزء منها في دورة الوجود، بغرض المعرفة، والتعظيم، والعبودية لله؛ فتمتنع هنا التجاوزات الفكرية، أو الشطحات للنظريات الفيزيائية، مهما بلغ تطور العصر الرقمي التكنولوجي، بمعنى: الكل داخل في النظام الكوني بصورة دقيقة للغاية.
أما “وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان”، فهي تحقيق العدالة الإلهية للمجتمع البشري قاطبة، كما سيأتي بيانه لاحقاً.
وأهم ما فيه هو: الشريعة الدستورية الإلهية لكل الناس، التي لا يخرج منها خارج، ولا يقدر على تعديلها أو تعطيلها أحد، بما يُعرف بالشرائع، والوصايا، والأحكام، بما جاءت به الرسل، والأنبياء، والمصلحون المجتمعيون الكوكبيون.
وكذلك المنظومة الكونية، فهي محكومة بقانون الفلك والفيزياء، كما أشرنا آنفاً. وهنا يتنزل الأمر الإلهي بتطبيق المنهج العدلي الصرف المحض على البشر، دونما استثناء؛ فالكل سواسية أمام العدل الإلهي الصرف، بلا شك.
ولتبسيط الموضوع قدر الإمكان: هناك ثلاث مستويات من الحساب، والعقاب، والعذاب، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة، على ضوء الآية التالية:
{ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تُظلم نفسٌ شيئاً، وإن كان مثقال حبّةٍ من خردلٍ أتينا بها، وكفى بنا حاسبين} [سورة الأنبياء].
لاحظ قوله: “ليوم القيامة”، وليس “يوم القيامة”، والفرق بينهما كبير للغاية؛ فإضافة اللام إلى “يوم” تعني أنَّ الحساب والعقاب والثواب هو منصوب الميزان “اليوم” قبل “الغد”، والغد سيكون الأمر فيه مختلفاً، اختلاف مقدار لا نوع، كما سنبينه لاحقاً.
هذه الموازين القسط هي معمول التحقيق للعدل الإلهي لكل الخلق، على رأسهم البشر. ثم لك أن تلاحظ أن كلمة “الموازين” جاءت بالألف الخنجرية “الموزين”، مما يعني أن العدالة من وجوهها: القيم، والسلوك، والقوانين الوضعية والسماوية، ضمنياً ومعنوياً، ومن ثم القوانين الفيزيائية العملية، تطبيقاً وتنفيذاً مباشراً كما هو معروف للناس.
وكذلك كلمة “حاسبين” جاءت بالألف الخنجرية “حسبين”، بمعنى أن الله أوعز للبشر أن يحاسبوا أنفسهم بأنفسهم في حياتهم الدنيا، أولاً بأول، فهو أسرعهم بما يتقاضى فيه الخصوم بينهم، سواء بالعرف أو القانون أو التشاريع السماوية.
أولاً، حساب الله للناس:
وهي العلاقة بينك وبين الله، إذا كانت سالبة فتسمَّى ذنوب، فإن شاء عذَّب، وإذا كانت إيجابية فهي مغفورة، وإن شاء عفا.
حسناً! ما هي الكيفية والماهية التي يعذب الله بها الناس ويحاسبهم عليها أولاً بأول؟
لله طرق عديدة حسب ما جاء في القرآن الكريم لبيان الكيفية والماهية التي يحاسب ويعاقب ويثيب عليها البشر، أبرزها الآيات الكونية، وتتمثَّل في التغيرات التي تطرأ على المنظومة الكونية والفلكية مثل الصواعق الرعدية، والنيازك، والشهب، وانشقاق السماء، ويوم تقوم الساعة، التي هي عبارة عن تغيير في منظومة الفلك بالنسبة للمجموعة الشمسية، وسبق الحديث عنها في أكثر من موضع، أو إظهار الانفطار بجلاء مادة السماء المكوِّنة لها، وهي القشرة السميكة المطاطية أو ما يعرف بالكشط، أو إنزال الصخرة الأكبر على الناس، وهلم جرا.
ويمكن مراجعتها في القرآن، المرجع السابق، وكذلك في كتابنا (الزمن في الإسلام – تأويل جملة آي القرآن) لمزيد من التفاصيل.
بتلك الصورة، يكون الحساب والعقاب والثواب لبيان وتحقيق قدرة الله على الخلق والوجود، وأعلى من يعنيه الأمر هم البشر، لأنَّها فوق طاقتهم بما لا يتخيله عقل، أو يتصوره منطق، أو يخطر على قلب بشر، أو يستكن في بال أحد من شدِّة الهول، وفظاعة المنظر، وسوء المنقلب، أو حسن المآل حسب تأمل الرائي.
بمعنى: من كان سيئاً راءها فظيعة، ومن كان حسناً راءها متأملاً قدرة الله على الوجود وإحكام قبضته عليه. حسناً! أين الحساب والعقاب هنا؟
الإجابة: في مدى تصور العقل والقلب للإدراك، بمقدار ما يقع على النفس من فكر أو شعور، أو كليهما معاً، تعظيماً وإذلالاً.
يقول الحق عز وجل: {ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم، وكان الله شاكراً عليماً} سورة النساء.
الله لا ينتقم عن نفس حاقدة – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – بل تقتضي الحكمة، والعدل، والمشيئة، والقدرة، والإرادة الإلهية، أن يعدل وفق الحكمة والمشيئة، وفي أدناها درجة العفو، بإظهار قدرته على تصريف الكون والوجود، ليقع في نفس الإنسان ما يقوي مدارك استيعابه على التعظيم والإجلال لله تعالى، وفي أعلاها درجة يكون العقاب وفقاً للعمل.
بصورة ثانية، العذاب والعقاب هنا يكونان بأحد الطرق الآتية:
1 / التعذيب بالنار، وفيه درجات، منها: الأليم، والشديد، والغليظ، والكبير، والعظيم، كلٌ حسب عمله وفعله، بما تقتضيه الحكمة والمشيئة الإلهية.
2 / التعذيب بالسجن، وفيه: “السِجِّيْن”، وهي السجون المعروفة للناس، لكن بشكل مختلف كثيراً عن مألوفهم، غرف داخل غرف، داخل غرف، داخل غرف، بصورة معقدة للغاية، بحيث لا يتمكن المسجون من الهرب أو النجاة، إلَّا بالمشيئة الإلهية بانتهاء الأجل المكتوب.
لذلك سمَّاها “كتاب مرقوم” في سورة المطففين، راجع سورة الحج، والغاشية، والمطففين.
3 / التعذيب بالسحيق، والسحيق هو ما دون الأرض التي نحن عليها الآن لمسافات خارجة عن التصور العقلي والذهن البشري حتى يومنا هذا الذي أكتب إليكم فيه، وبالتحديد: المنطقة المظلمة حد السواد الأكلح، أو ما يعرف فيزيائياً بما تحت الحمراء أو فوق البنفسجية من الأشعة.
وفيه طريقين: الأول، من طريق الخطاطيف، والثاني من طريق الريح، فتوصله لعمق الوجود الباطن، بحيث لا يقدر على أي حال ما بالخروج أو الإدراك لما فيه من حادثة عليه، ما لم ينقض الأجل المحتوم، راجع سورة الحج وكتابنا السابق المشار إليه.
ثم الآيات الطبيعية، والمتمثلة في الكوارث الطبيعية والفيضانات والسيول والزلازل والبراكين والخسف والأخذ، أو الحرائق أو حرائق الغابات، أو تسليط الشمس عمودياً على الأرض، بحيث تبلغ درجة حرارتها ما يذيب الجليد ويفني البشر، لكنه هنا لا يغنيهم، بل يصيبهم وهم ينظرون، لا يتحركون من أجل إذاقة العذاب – راجع سورة فاطر – أو يبعد عنهم الشمس فيصيبهم بالبرد حد التجمد، كما الحال في سيبيريا وغيرها من الأصقاع وخلافه.
هنا العذاب المباشر لا يصيب الذين يموتون من شدة العذاب وهوله فقط، بل يصيب الأحياء منهم بصورة كبيرة للغاية، من الذين قضوا حتفهم. أهمها: التدهور البيئي بتفشي الأوبئة والأمراض، والصحي بتفشي الجراثيم الموجودة في الهواء والأرض، والاقتصادي مثل ما حدث عام 2008، مما يعرف بالأزمة المالية العالمية التي تدهور الوضع المالي في كثير من الدول بسببها، وتعطلت شبكات الإنترنت، وأدخل الناس، حكومات وأفراداً، في ديون مالية ضخمة وخلافه، والاجتماعي بتفشي السلوك السالب، بالسرقات المتكررة والنهب والسلب والاغتصاب الجماعي والقتل والسحل، والفوضى غير الخلاقة، وانعدام الأمن العام، وافتعال الحروب والصراعات والأزمات، وغياب السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية والإدارية التي من شأنها الحد من مثل تلك الجرائم المرتكبة في حق المدنيين، وهلم جرا.
ثم الآيات النفسية، ولا يخفى الأثر النفسي القاسي على النفس البشرية من حدوث تلك التقلبات في النظام الروتيني لحركة الحياة اليومية، مما يقلبها رأساً على عقب، ومما يضطر بعدها تغيير النظام الحياتي، وكأنهم يبدأون الحياة من جديد، وما أقساها من تقلبات وتفلتات، وإعادة الحياة في إحدى دوراتها المستمرة.
وتعرف هذه المحاسبة والمعاقبة بالذنوب، أي بينك وبين الله، من الظلم وتعطيل العدالة وتجميد القوانين، وما إلى ذلك.
ثانياً، حساب الناس للناس: أبرز ما في هذا الجانب من الحساب والعقاب والثواب، هي القوانين واللوائح المنظمة الدولية والمحلية والإقليمية، الرسمية والمتعارف والمتوافق عليها، من منظومة متكاملة لمجلس الأمن الدولي، أو الأمم المتحدة، أو البرلمانات الدولية المنتخبة، التي تسن القوانين واللوائح والقرارات والتشريعات اللازمة لضبط حركة الحياة في كل المجالات الحياتية دون استثناء.
العامل الثاني هو الأعراف والتقاليد والعادات المجتمعية، التي تضبط حركة المجتمع المدني المعني في حالة غياب القانون، أو غياب السلطات التشريعية أو التنفيذية أو القضائية الرسمية للدولة.
فهم يقومون بهذا الدور من أجل إقامة الحق والعدل والمساواة بين الناس، سواء كانت قبيلة أو جهة أو عنصر أو إثنية أو ما أشبه، بغض النظر عن مدى قسوة هذا العذاب أو طواعيته، فهو يحقق العدالة الاجتماعية بحال من الأحوال، ويرتضيها الجميع.
ونعرفها بالإدارات الأهلية التي تفصل بين الناس في الخصومات قضاء وتنفيذاً. تعرف هذه المحاسبة والمعاقبة بالخطيئة، أي ما بينك وبين الناس.
ثالثاً، حساب الإنسان لنفسه: وآيته من سورة البقرة: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء، والله على كل شيء قدير}.
فهمنا مما سبق الحساب والعقاب والثواب الجهري، بقي لنا أن نعرف ما هو الحساب والعقاب والثواب الخفي. حسناً! هو محاسبة النفس للنفس بالتخلي عن فعل السوء، بإضمار نية الشر والظلم والتعدي على حقوق الآخرين، والتحلي بحسن الأخلاق والقيم الإنسانية الحميدة، ومنها ما يعرف بالنفس اللوامة.
وأقلها درجة هو كف الخاطرة عن فعل الشر، ومنع القلب من إضمار النية للشر، وأعلاها درجة هو إبدال الشر إلى الخير، والمعروف بإتاحة واندياح النفس لفعل المعروف، وبذله للناس، وأن تكف أذاك عنهم، وأن تتحمل أذاهم عليك، ثم لا يكن عاقبة أمرك كله إلا خيراً للناس وبراً بهم، وإحساناً إليهم.
هنا تحاسب النفس ذاتها بذاتها، دون تدخل خارجي من أحد، بل بإعمال التفكير الحسن، وإعادة حسن إضمار النية لفعل الخير، وكف الأذى عن الناس. تعرف هذه المحاسبة والمعاقبة بالسيئة، أي بينك وبين نفسك.
قال تعالى: {وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك، قل كل من عند الله، فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً * ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك، وأرسلناك للناس رسولاً، وكفى بالله شهيداً} سورة النساء.
بذلك يحاسب الله الشعوب والقبائل والجماعات، والأفراد والذوات.
رابعاً، يوم القيامة: من أفلت من العقاب في الدنيا، بسبب من الأسباب، فهو لن يفلت بطبيعة الحال من عقاب الله له يوم القيامة، عند نصب الموازين القسط ليوم القيامة. وهو القائل: {والسماء رفعها ووضع الميزان * ألا تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان * والأرض وضعها للأنام} سورة الرحمن.
أما قضية عملية الثواب، فهي مبذولة بلا حدود، بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر. اقرأوا إن شئتم: {فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} سورة السجدة.
أنا لم أكتب كل ما أعرفه في هذا الموضع، لضيق الكلمات مني، وفواتها علي، على علة أن تبحث في مواضعها المذكورة آنفاً، حتى لا تضيق هذه الكلمة عن القارئ النبيه.
تلك هي إقامة الموازين القسط ليوم القيامة، منذ بدأ الخليقة وإلى يوم القيامة، بين الناس والناس، وبين الله والناس، وبينك وبين نفسك. فانظر ماذا ترى.
Just wanted to say thanks for putting this together. It helped clear up a few doubts I had!