أفريقيامنوعات
أخر الأخبار

هُنا آسفي.. عبقُ الأطلس وعشقُ المدى

هي مدينة لا تُنسى، لأنها لا تُشبه سواها. يختلط فيها الحنين بالحياة، ويُصافح فيها الماضي الحاضر، كأن الزمان فيها يدور في حلقة، لا ينقطع فيها المجد..

هُنا آسفي.. مدينة تنام على كتف الأطلسي، وتستفيق على تراتيل الموج وعبق التاريخ. هُنا حيث تعانق الأرض البحر، وتكتب الشمس على صفحة الماء قصائد المجد والحنين. في آسفي، لا تُقاس الأيام بالساعات، بل تُقاس بالنَّسَمات التي تعبر الأزقة، وبالذكريات التي تفيض بها الجدران.

آسفي.. يا لؤلؤة المحيط، ويا ابنة الحضارة، ويا قصيدةً مغربيةً أندلسيةً نُظِمت على ضوء القمر. فيكِ ولد الخزف، لا كصنعة فقط، بل كفنٍّ يتنفّس، وكهويةٍ تنبض، فصار الطين في يديكِ يُسبّح بحمد الجمال، ويهمس بأسرار الأجداد.

من ذاكرة الزمان.. 

آسفي ليست صفحة عابرة في تاريخ المغرب، بل هي من أولى الصفحات، وأبقاها أثرًا. سكنت فيها الحضارات، من الفينيقيين إلى الرومان، وسار على رمالك الأمازيغ والعرب، وأسسوا فيها، وعلّموا، وتعلموا.

وفي ظلّ المرابطين والموحدين، كانت منارة علمٍ وميناء أمل. ثم جاء السعديون، فجعلوها نافذتهم على البحر، ومخزنًا لخيراتهم، فانتعشت تجارتها، وتعاظم شأنها.

احتلها البرتغاليون زمنًا، لكن لم تطأطئ رأسها، ولا رضيت بالدنية، فقاتل أهلها، واستبسلوا، ثم طردوا الغازي من أرضهم، وعاد لها بهاؤها وسكونها وكرامتها.

الناس والمكان.. 

أهل آسفي كأنما امتزجوا بملح البحر ونفَس المحيط. فيهم الطيبون، وفيهم الحكماء، وفيهم مَن تعلّم من الزمان كيف يكون الإنسانُ بحارًا في العمل، شاعرًا في الوجدان.

فيهم من يعزف الخزف بأصابعه، ومن يروي القصص من عينيه، ومن ينسج المروءة في كلامه وفعاله.

وفي القصبة العتيقة، حيث التاريخ لا يُروى بل يُلمَس، ما زالت الخطى تتهادى بين الأحجار، وما زالت الأبواب تفتح على حكاياتٍ من زمنٍ بعيد، فيها الفقيه، والمُعلم، والتاجر والشاعر، والحرفي، وكلُّهم من نسج روح آسفي.

آسفي اليوم.. 

ما زالت آسفي تُقاوم النسيان، وتزرع الذاكرة في كلّ زاوية. في مينائها ينبض العرق والتعب، وفي أنامل نسائها تولد الزخرفة من صبرٍ وعشق، وفي لياليها يُسمع صوت البحر وهو يُهدهد أحلام الصغار.

هي مدينة لا تُنسى، لأنها لا تُشبه سواها. يختلط فيها الحنين بالحياة، ويُصافح فيها الماضي الحاضر، كأن الزمان فيها يدور في حلقة، لا ينقطع فيها المجد.

فيا من مررت بآسفي، لا تمر مرور الغريب. سلِّم على شواطئها، وامشِ بين دروبها، فقد ترى ظلَّ شاعرٍ أندلسي عاد ليبكي في القصبة، أو تسمع صيحة بحّارٍ نادى من بعيد على موجٍ فقده، أو ترى خزّافًا يبتسم وهو يُحيي الطين.

هنا آسفي… لا تُقال بل تُحسّ، لا تُروى بل تُعاش.

وهنا أختم

لا بمداد القلم، بل بأنين الحنين، ورفيف الذكرى.

أختمها من حيث لا ينتهي الشوق، من قلبٍ يسكن طيبة الطيبة، ويُطلُّ من نوافذ الروح على ضفاف آسفي، كلما هبّ نسيم، أو أذّن مؤذن، أو هبط الليل يحمل سكونه وهمس المحبين.

آسفي… يا نغمةً لا تسكن، ويا ذاكرةً لا تذبل، ويا رائحةً في ثياب القلب لا تُمحى.

آسفي… كيف تنسى من ذاقت خبزك، وشربت من مائك، وسمعت أمواجك تروي قصص البحّارة، وتغني للمراسي البعيدة؟

إن تنعّمتُ اليوم بجوار المصطفى ﷺ، واغتسلت أيامي بنور المدينة المنوّرة، فلا زالت خطواتي الأولى محفورة على ترابك، ولا زالت جدرانك تهمس باسمي كلما اشتد الغياب.

سلامٌ عليكِ يا آسفي..
سلامٌ على البحر حين يهمس باسمك،
وسلامٌ على القصبة حين تُهدهد صمتها،
وسلامٌ على الخزف، والضوء، والحكايا،
سلامٌ من روحٍ وإن سكنت المدينة المنورة فإنها ما غادرتكِ.

كتبتها ابنة آسفي العبدية المشتاقة قاطنة طيبة الطيبة 
أم مها الحربي
مريم التركي

https://anbaaexpress.ma/3kziy

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى