آراءسياسة
أخر الأخبار

متى تمتلك سياسات بغداد الخارجية آذان نوري السعيد؟

بغداد لديها فُسحة ضيَّقة نسبياً للاختيار بين أن تكون فاعلاً صوتياً في القرار السوري أو ثقلاً وازناً في حسابات دمشق. النتيجة، مهما كان شكلُ النظام في دمشق، فإننا لا نستطيع أن نقوم بترحيل الجغرافيا حتى يأتي نظام آخر على مقاسنا. الأكيد إننا مطالبون أن نُبقي مسافة آمنة لا بعيدة مع دمشق حتى يتضح لونها السياسي بشكلٍ نهائي، بعد أن غرق في منطقة الساحل السوري و في مدينة السويداء خلال الأيام الماضيَّة.

سياسة بغداد مع واشنطن و إيران تشبهُ الأُذنين التي امتلكهما الباشا نوري السعيد في كِبَرِه. هذا السياسي الشهير في العهد الملكي للعراق أصبح مع تقدُّمِه في العمر يسمع ما يُريد و يُصاب بالصمم عمّا لا يُريد.

أُذنا السعيد في سياسة العراق مع طهران مثلاً في يومنا الحالي، أفضل قليلاً من حالها قبل سنتين و نصف تقريباً “بدأوا يحترموننا و يأخذون كلامنا بجدَّية أكبر”.

فؤاد حسين وزير الخارجية العراقي استخدم تلك المفردات في سياق إجابته على شكل العلاقة بين بغداد مع طهران، داخل حلقة نقاشية مع مجموعة من الساسة و الباحثين عندما زار واشنطن، بهدف تخليص اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين العاصمتين من قيود الأمن و العسكرة، وتنشيط آفاقها الأخرى كالاقتصاد.

إجابة الوزير حسين بدورها أفضل من واقع بعض المشتغلين بالسياسة الذين اتخذوا من انتقاد إيران تلَّة لتصبح قامتُهم عريضة على الشاشات. الشيخ جواد الخالصي أسرَّ لنا عام 2021، بأنَّه قد نصح الإيرانيين بعدم المبالغة في تقدير درجة قبولهم الشعبيَّة داخل العراق.

الشيخ علَّق مُبتسماً على العضلات الانتقادية الإيرانية لبعض الساسة و الشخصيات العراقية التي كانت تزور طهران بما كان مفادُه “يذهبون بنوايا انتقادية و يعودون بعقليةٍ إيرانيَّة”.

العلاقة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب، تقعُ هي الأخرى في منطقةٍ أكثر رمادية من نظيرتها الإيرانية. الرئيس الأمريكي يُبصِر قيمة بغداد في بعُد المسافة عن طهران.

كلما ابتعدت ابتسم و كلما اقتربت اطلق قذيفة تحذيرية عبر السوشيال. طبعاً، الاهتمام ينبع من نظرة إدارته بأنَّ بغداد تلعبُ دوراً كبيراً في تعويم الاقتصاد الإيراني، و منعه من الغرق تحت مستوى سطح سياسات “العقوبات الأقصى” الأمريكية. أهميَّة العراق حالياً تتعلَّق بسياسة المسارين المُتَّبعة مع إيران “دبلوماسية و عقوبات”.

دونالد ترامب يستطيع أن يسبب ضرراً كبيراً للعراق الذي توجد أمواله في صناديق الفيدرالي الأمريكي.

لكن بلادنا ترتبطُ بالغرب بشكلٍ كبير في مجالات الاقتصاد، المال، و الطاقة و نحن لا الغرب نسعى معها للمزيد. ليس بمقدورنا أن نتحمَّل أي نوعٍ من العقوبات أو أشكال الحصار.

الوهم بأننا قادرين على التحمُّل يعني بأن العراق خالٍ من السياسيين. و قد يُحفِّزُ هذا الوهم مؤشر “جودة النخب” العالمي الذي وضع العراق في المرتبة 146 من مجموع 151 دولة على رمينا خارج أي تصنيفات معقولة.

عيبُ السياسة الخارجيَّة العراقيَّة بأنها صدى للصراعات الحزبية، و خالية من خطوطٍ حمراء تُطمئن المجتمع الدولي بأنَّ سياسات بغداد نابعة من مصالحها العُليا.

تاريخياً، كان الرأي الأمريكي بسياسات عبد الكريم قاسم الرئيس العراقي الأسبق أنها “مجنونة” لأنَّ قاسم آمن بقدرته على تسيير سياسة البلاد الخارجية على رصيفٍ مستقل، بعيداً عن شارع الإيديولوجية الشيوعية و القومية. عراق الآن يؤمن بأن الاقتصاد يُعطيه قُدرة السَّير السياسي الآمن على الحبل الاستراتيجي المشدود بين واشنطن و طهران.

يجب أن نعترف بأنَّ حكومة العراق الحاليَّة، استطاعت على أقلِّ تقدير صناعة موقف عقلاني و جيَّد منذُ حدث السابع من أكتوبر 2023 بين حماس و إسرائيل، وصولاً إلى الحرب الإسرائيلية ضد إيران في الـ 13 من يونيو 2025 وما حدث في لبنان قبلها.

هي قد نجحت في منع انزلاقنا إلى آتون هذه الحرب. بالطبع، حوادث استهداف بعض مصافي البلاد النفطيَّة بالمُسيَّرات، قد يدفعنا إلى رؤية نجاح الحكومة كنُسخة كاربونية عن التوازنات بين واشنطن و طهران.

إذاً، بين ربّما أن يكون نجاحاً و ربّما هو توازن صنعهُ آخرون، يبقى على العراق الرسمي أن يرتقي بسياساته بعيداً عن لجوء الآخرين إلى “ربّما” في تفسير سياساته.

يستطيع العراق الرسمي في اللحظة الحالية، تدريب نفسه على الارتقاء بسياساته بعيداً عن التأويلات التي تذهب إلى أقصى اليمين و اليسار بعلاقةٍ ناضجة مع سوريا.

رقبة سياسات بغداد الحاليَّة مع دمشق مُتصلِّبة أمنيَّاً. بلادنا تتجاهل حقيقة إنَّهُ في زمن المرحلة الانتقالية التي تعيشُها دولة ما فإنَّ الدول التي لا تسمح بغيابها عن هذا المشهد المؤقت، تكون صاحبة نفوذ إيجابي.

دمشق تستطيع أن تلعب أدواراً مُتعدِّدَة في صالح بغداد من الاقتصاد إلى الأمن الغذائي، لذا فإنَّ اعتماد بغداد على السُلَّم الأمني سوف يكسِر أقدام العلاقات المستقبلية معها.

بغداد لديها فُسحة ضيَّقة نسبياً للاختيار بين أن تكون فاعلاً صوتياً في القرار السوري أو ثقلاً وازناً في حسابات دمشق. النتيجة، مهما كان شكلُ النظام في دمشق، فإننا لا نستطيع أن نقوم بترحيل الجغرافيا حتى يأتي نظام آخر على مقاسنا.

الأكيد إننا مطالبون أن نُبقي مسافة آمنة لا بعيدة مع دمشق حتى يتضح لونها السياسي بشكلٍ نهائي، بعد أن غرق في منطقة الساحل السوري و في مدينة السويداء خلال الأيام الماضيَّة.

الولايات المتحدة تركت الإجابة عن سبب مساعداتها لدول العالم، على لِسان ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق في سبعينيات القرن الماضي “نحنُ نساعد أنفسنا لا الآخرين”.

كما أن إعادة العمل بخط بانياس لنقل النفط العراقي قد يستطيع جمع بغداد و دمشق في منطقة وسط، تكون صالحة لاستشراف المزيد من الممكنات.

نعتقد كذلك بأن طريقة تعاطي نُخب البلاد السياسية مع ملف الحشد الشعبي، يستطيع مساعدة العراق الرسمي على النجاح في مسار السياسة الداخلية و الخارجية.

الاعتراف بالتضحيات التي قدَّمتها الجهات المنتمية لهذه المؤسسة يجب أن لا تُنكر عليها.  مصيرُ تلك الجهات سواء بالدمج في مؤسسات البلاد العسكرية، الأمنية، أو المدنية، يجب حصوله بطريقةٍ تحفظ سمعتهم لا أن تحدث كإهانةٍ أو عقاب.

إن لم يُراعى ذلك فلا نستغرب أن تبقى تلك الجهات مصدر تهديد اقتصادي و عقوبات دوليَّة. واشنطن ترفضُ دمجهم بحجة بقاء السلاح تحت يد تلك الجهات و لكن يجب أن نستهل الحوار معها بالقول “دمشق دمجت مقاتلين أجانب و نحن لن نقوم إلَّا بدمج العراقيين”.

بغداد يجب أن تنأى بسياساتها الخارجية بعيداً عن أسلوب صوَّرني دولياً و حمَّض صورتي إيرانيَّاً.

تبقى البلاد مطالبة وسط ما تقوم به إسرائيل في غزة، لبنان، سوريا، و إيران بأن لا تتحرَّك بشكلٍ انتقائي. عليها أن تكون فاعلة في عملٍ جماعي ضمن جامعة الدول العربية و منظمة الدول الإسلامية، لدرء الأخطار المستقبلية عنها و عن المنطقة. إسرائيل تسعى لتفكيك المنطقة و من المُرجَّح أن تحاول الانفراد بالعراق، بناءً على خطِّ سير الأحداث.

عراقياً نحنُ بحاجةٍ إلى وحدة موقف. كذلك عربياً من بغداد إلى جبل طارق علينا الاختيار بين كوننا قطيع ذئاب أو حملان. حماية الفلسطينيين في غزة و الضفة الغربية و حلُّ الدولتين و تقديم المساعدات بديهيات لا ضروريات. سياسات العراق و العرب يجب أن تبتعد بالكامل عن المنصات و تُصبح شاحنات مساعدات على أقلِّ تقدير.

بلادنا تستطيعُ أن تكون جسراً بين واشنطن و طهران، لكن لا تستطيع أن تكون جوهرة التاج الإيراني المصقولة طائفياً، ولا تستطيع أن تكون هراوة أمريكية فرأسُ بغداد السياسي ما زال مليئاً بالجروح الطائفيَّة و التحديات الاقتصادية.

يجب أن تسمح الولايات المتحدة لنا بالنضوج الاستراتيجي في المنطقة العربية و العالم، بدون تجديد سياساتها معنا بالشباب الإيراني و الخرافات الجغرافية التي تهبُّ من تل ابيب.

* مسار عبد المحسن راضي/ كاتب و صحافي و باحث عراقي

* ميسون الدملوجي/ نائب سابق في البرلمان العراقي

https://anbaaexpress.ma/xb48z

مسار عبد المحسن راضي

كاتب صحافي وباحث عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى